المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (76)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (76)
(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [البقرة:140 – 141].
(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ) أَمْ على قراءة (تَقُولُونَ) عاطفةٌ على قوله: (أَتُحَاجُّونَنَا)، وهي أَمْ المعادلةُ للهمزة في (أَتُحاجُّونَنا فِي اللهِ)، بمعنى: أيّ الأمرين تأتونَ يا أهلَ الكتابِ فهو منكرٌ قبيحٌ منكم! سواء المحاجةُ والمجادلةُ في الله بالاعتراض عليه في اختيار أنبيائه، أو بادعاء اليهودية أو النصرانية على إبراهيم والأنبياء الذين هم تبعٌ له، مِن أبنائه وأحفاده؛ إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط.
وعلى قراءةِ (يَقُولُونَ) تكون أمْ منقطعةً للإضراب، وهمزة الاستفهام للإنكار والتوبيخِ على قولهم إنّ هؤلاء الأنبياء كانوا هودًا أو نصارى (وَالْأَسْبَاطَ) تقدم معناه.
(قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) الاستفهام تقريري، والمعنى مع ما قبله: قل لهم يا محمد كيفَ تتجرؤون وتنسبونَ إبراهيم عليه الصلاة والسلام لليهودية والنصرانية، بعد أن أخبر الله تبارك وتعالى عنه بقوله: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)([1])، فهل أنتم أعلم أم الله الذي نفى الأمرين عنه؟ وكيف يصح أن يكون إبراهيم يهوديًّا أو نصرانيًّا وأنتم تعلمونَ (وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)([2])، فهل يُعقل أن يكون إبراهيم من أتباع التوراة كما تزعمون، والتوراة لم تنزل في زمنه بعد.
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) الاستفهام في قوله: (ومَن أَظلَمُ) إنكاري بمعنى النفي، معطوف على قولهِ: (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ)، والمعنى: وقل لهم: لا أحد أظلمُ ممن كتم شهادة عنده من الله، وهو إنكارٌ وتقريعٌ للأحبار والرهبان مِن أهلِ الكتاب، كانوا يكتمونَ ما علمُوه من كتبِهم ويحرفونَه، ويشترون به ثمنًا قليلًا، وصفهم الله في هذه الآية بأنّ ظلمَهم أشدّ مِن ظلمِ غيرِهم، وفي حكمهم كلّ مَن علِمَ علمًا من علماءِ المسلمينَ وكتَمَه، وترك المناصحةَ للأمةِ وولاةِ أمرِها، ورضيَ بأعمالهم الفاسدة في سياسة الدينِ والدنيا، فقد جاءَ عن ابن عباس رضي الله عنه: (إنّ كلَّ ما ذمَّ الله عليه أهل الكتابِ فالمسلمونَ محذَّرون مِن مثله)، وذلك لما في سكوتِ العلماءِ عن الباطلِ مِن الفسادِ وضياعِ الدينِ، هذا فيمن سكتَ عن البيان وقت الحاجة، فكيف بمن كتمَ الحقّ حين تكلّم، وحرفَ الكلم عن مواضعِه، وزينَ لحكام السوءِ أعمالهم، حتّى شرعُوا بفتاواهم هذه الأيام للحكام وأجهزتهم الأمنية، الوشايةَ بكل صاحبِ قضية، فضلًا عن علماء آخرين لم يكونوا في ركابِهم، بإدراجِهم في قوائم (إرهاب) كيدية، تُلاقي استحسانَ مَن لا يريدون للشعوبِ المقهورة أن تتحررَ . قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)[3]، وكان يَسعُ أصحابَ هذه الفتاوى السكوتُ، عندَ الخوف على أنفسهم مِن بيانِ الحقّ، وإنْ أفقدَهم بعضَ الحظوةِ لدَى الحكامِ.
ومِن في قوله: (عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) ابتدائية، والظرفان (عِندهُ، ومِن اللهِ) متعلقان بشهادة، أي: لا أحد أظلم – سواء من هذه الأمة أو من أهل الكتاب – ممن كتم شهادةً متحققةً عنده، أنها أتتْ من اللهِ لإبراهيمَ عليه الصلاة والسلام بالحنيفية، والبراءة من اليهودية والنصرانية، ولمحمدٍ صلى الله عليه وسلم بالرسالة، فتكون النتيجة أنه: لا أحدَ أظلمُ مِن اليهود؛ لأنهم هم الذين كتَمُوا شهادةَ الله في التوراةِ بنبوةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ونسبوا إبراهيم عليه الصلاة والسلام لليهودية زورًا (وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وعيدٌ لأهل الكتابِ عن سوءِ أعمالهم، وكتمهم الشهادة، وفي حكمهم كل مَن كتم شهادة كان عليه تبليغها.
(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) هذه الآيةُ تقدمتْ، وكُررتْ ثانيةً ترسيخًا للمعنى الذي دلتْ عليه؛ لأنه معنى لم يتعودوا سماعه، مبالغةً في التحذير مما أَلِفُوه واستحكَم في طباعِهم، مِن الافتخارِ بالآباءِ، والاتكالِ على أعمالِهم، مع تفريطِ الأبناءِ.
[1]) آل عمران: 67.
[2]) آل عمران: 65.
[3] البقرة:174.