المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (78)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (78)
(وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) [البقرة:143 – 144].
(لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) علة لكون هذه الأمة وسطًا عدولا خيارا، أن يكونوا شهداء على الأمم الماضية والحاضرة التي لم تؤمِن، فمن أنكر منهم تبليغ الرسول إياهم، وقال: ما جاءنا من بشير ولا نذير، شهدت عليه أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، وذلك لما علموه من الوحي؛ أن جميع رسل الله بلغوا ما أنزل إليهم من ربهم، وأقاموا الحجة على أقوامهم، والآية حجة قاطعة على صحة ما اتفقت الأمة على نقله من أمور الدين؛ كوجوب الطهارة والصلاة والزكاة، وتحريم المحرمات؛ كالخمر والزنا والربا، لأنّها شهدت بعدالة مجموع الأمة، ولا فائدة من الشهادة بعدالتها إلا قبول ما نقلته من أمور الدين.
(وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) تشهدون أنتم على الأمم، ويشهد النبي صلى الله عليه وسلم عليكم بالعدالة، وشهادة النبي صلى الله عليه وسلم على الحقيقةِ هي تزكية وتعديل لهم، وليست شهادةً عليهم، لكن نظرًا لما تتضمنه التزكية من معنى الرقابة على المزكَّى عُديتْ بعَلى، أو هو من المشاكلة لما قبله مِن شهادتهم على الناس.
وقدمت (عليكم) على عاملِها (شهيدًا) للاهتمام بشهادته صلى الله عليه وسلم عليهم.
(وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا) الجعل هنا شرعيّ؛ لأنّ معموله القِبلة، وليس بمعنى الخلق، وعليه يكون متعديا لمفعولٍ واحدٍ، و(التي كنتَ) صفة، ويصحّ أن يكون الجعل على أصله ينصب مفعولين، و(التي كنت) مفعولا ثانيًا، على معنى: وما جعلنا القبلة هي التي كنت عليها (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) أي: الحكمة من تحويل القبلة التي كنت عليها من بيت المقدس إلى الكعبة، إنما هي لأجل أن يظهر لكم بالاختبار والتمحيص ما علمه الله، من أنّ منكم المطيع، المتبع للرسول، الصادق الإيمان، ومنكم المنافق المكذب، المنقلب على عقبيه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون يصلون أول الأمر إلى بيت المقدس، بجعل الكعبة بينهم وبينه، وأُمروا بعد الهجرة أن يستمروا على الصلاة إلى بيت المقدس، تأليفًا لليهود، واستمر ذلك ستة عشر شهرا، كان صلى الله عليه وسلم يتطلع فيها إلى أن تتحول قبلته شطر المسجد الحرام، كما أخبر القرآن: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ).
(وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) (إِنْ) هي المخففة، واللام بعدها هي الفارقة بينها وبين إن النافية، والضمير في (كَانَتْ) للقِبلة، والانقياد إلى حكم الله فيها (لَكَبِيرَةً) من كبُر الأمرُ إذا اشتدَّ، ومنه قوله سبحانه وتعالى: (وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ)[1] أي: إنها لشديدة وشاقة، فالانقياد لأمر الله أمرٌ شاق، انقلبَ فيه بعضُ الناس على عقبيهِ، ونجا آخرونَ وسهلَ عليهم، وهم مَن هَدى اللهُ فانقادُوا لأمره.
(وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) صلاتكم، فقد جاء في سبب نزولها عن ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ: (لَمَّا وُجِّهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الكَعْبَةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ)([2])، وفيه التنويه بتعظيم شأن الصلاة، حيث استحقَّت اسم الإيمان، وفيه دليلٌ على أن الأعمال من الإيمان.
وفي (إِيمَانَكُمْ) التفاتٌ بضمير الخطاب، ولم يأتِ الجواب بضمير الغائب (إيمانهم) الذي يوافق السؤال؛ لإفادةِ العموم، بأنّ عدم إبطال العمل المتقدم إذا طرأ عليه النسخ ليس خاصًّا بمن وقع السؤال عنهم، أمثال سعد بن زرارة والبراء بن معرور وأبي أمامة، بل عمَّهم وغيرَهم ممن وقع ذلك لهم (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) رؤوف رحيم صفتان مشبهتان مِن الرأفة والرحمة، والرأفة في القرآن دائمًا تسبق الرحمة، قالوا والمناسبة في ذلك أن الرأفة ترجع إلى التلطف، والرحمة ترجع إلى الإنعام، وكما قيل: الإيناس قبل الإبْساس، أي الترفقُ في القول قبل العطاء والبذلِ، ومَن كانت الرأفة والرحمة صفة ملازمةً له، لا يضيع عنده شيءٌ من الأعمال.
(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) (قَدْ) في كلام العرب للتحقيق، قالوا هي مع الأفعال بمنزلة (إنَّ) مع الأسماء، في تحققِ ما بعدها، والمرادُ هنا تحققُ لازم ما وقع بعدها، وهو (نَرَى) ولازِمهُ الوعدُ بوقوع ما كان يتطلعُ إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من تحويل القِبلة، والتعبير بالمضارع في الفعل (نَرَى) يفيد تجدد الوعد لتأكيد وقوعه (تَقَلُّبَ) مصدر مطاوع قلب، ومعناه: تحول وتردّد وجهك إلى السماء، وجيء في تعديته بـ(فِي) الدالة على الظرفية؛ للدلالة على تمكن هذا التقلب مِن الجهة التي يتطلع إليها، والتضعيف في قوله (تقلُّبَ) يعبر عن شدةِ ما كان يرجوهُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتمكنه من نفسه، وكان صلى الله عليه وسلم يقلّب وجهه ويرددُه في السماء، المرةَ بعدَ المرةِ، متطلعًا أن يحوله ربُّه في الصلاةِ إلى مكةَ، وكان يقع في رُوعه أن يستجيبَ له ربه؛ لأنّ الكعبة قبلةُ أبيهِ إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ولما يرجوه في ذلك مِن تأليفِ قلوبِ العربِ، ومِن أدبهِ صلى الله عليه وسلم مع ربهِ أنه تطلعَ إلى ذلكَ وطمعَ فيه، ولم يسألْهُ (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) وَلَّيْتُه الشيءَ: جعلته واليًا عليه، متمكنًا منه، أجابه ربه بالوعدِ المؤكَّدِ بلام التأكيدِ الموطئة للقسم، بتمكينِهِ مِن ذلك، وقال: (تَرْضَاهَا) دونَ تحبها؛ لأن الرِّضَى محبةٌ ناشئةٌ عن حكمةٍ ومصلحة، لا عن هوى، كما هي محبةُ السفهاء اليهود والمشركينَ، التي نهاهُ الله عن اتباعها في قوله الآتي: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ).
[1] الأنعام:35.
[2]) الترمذي: 2964.