المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (79)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (79)
(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ) [البقرة:144 – 145].
(شَطْرَ) مفعول ثانٍ لـ(وَلِّ)، والشطر النصف، والمراد هنا الجهة، والمعنى: ومِن أيّ جهة أنت وحيثُ ما كنتَ، فحوِّل وجهك في الصلاة واصرفهُ تلقاء وجِهة المسجدِ الحرام، البيت العتيق؛ فهو القبلة، والمسجد الحرام علمٌ بالغلبة على ما كان محيطًا بالكعبة مِن جهاتها، للطوافِ بها، وهو من الأسماء القرآنية، ورد في سورة الإسراء، ووصفه بالحرامِ لتعظيمهِ وتشريفه، أي: المسجد الذي له حرمةٌ وتعظيمٌ عند الله، كما قال تعالى: (عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)([1])، ومن تعظيمه تحريمُ القتال فيه، وأنّه محرمٌ على الجبابرة والظلمةِ، أن يتحكّموا فيه، قال تعالى: (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)[2]، وقد جاءَ في هذا الأمرِ بالتوجهِ إلى القبلةِ ذكرُ (الشطْرِ) و(المسجدِ الحرامِ) دونَ التوجه إلى عين الكعبة؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان بالمدينةِ خارجَ مكةَ، والخارج عن مكة يكفيهِ استقبال الجهة، ولا يجب عليه استقبال عين الكعبة، بحيث يكون بدن المصلي مع جدار الكعبة على خط مستقيم، وسمتٍ واحد، فالتوجه على هذه الصورة لا يجبُ إلّا على مَن كانَ يُعاين الكعبةَ ويراها، لا على مَن كان بعيدًا منها؛ لأن استقبال عين الكعبة للبعيد حرجٌ غيرُ مقدورٍ عليه، وهذا التفصيل – في الاستقبال للقريب من الكعبة والبعيد عنها – عليه جمهورُ أهل العلم (وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) خُصّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أولًا بالخطاب في قوله: (فَوَلِّ وَجْهَكَ) تحقيقًا للوعدِ الذي أعطيَه، في قوله: (فَلَنُوَلِّينَّكَ)، ثم خوطبت الأمة جميعًا تنصيصًا على عمومِ الحكم؛ ليبادروا بامتثال الأمر فورَ سماعه، وقد فعلوا، فقد صلَّى النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون نحو بيت المقدس، بعد أن قدموا المدينة ستة عشر شهرًا، إلى أن نزلَ الأمر بتحويل القبلة، فتوجهوا إلى الكعبة، وكان ذلك في رجب قبل بدر، ففي الموطأ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ، فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ)([3])، وفي رواية عند مسلم من حديث أنس رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَنَزَلَتْ: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً، فَنَادَى: أَلَا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ، فَمَالُوا كَمَا هُمْ نَحْوَ الْقِبْلَةِ)([4])، وفي رواية من حديث البراء رضي الله عنه أنّ ذلك كان في صلاة العصر([5])، ويمكن الجمع بين الروايات بحمل كل رواية على أَهلِ مكانٍ مَخْصُوصٍ، فبعضُهم بلغه التحويلُ في صلاة الصبحِ، وبعضهم بلغه في صلاةِ العصر، وسمي المسجد الذي تحول المصلون فيه إلى الكعبةِ مسجد القبلتين.
(وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) يعلم أهل الكتاب أن تحويل القبلة واستقبال الكعبة هو الحق، وأنه من ربهم؛ لعلمهم بأن سنته تعالى في عباده تخصيص كل شريعة بقبلة، ولتضمّن كتبِهم أنه صلى الله عليه وسلم يصلي إلى القبلتين، وضمير (أَنَّهُ) في الآية يعود على التحويلِ أو التوجّه (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) يلزمُ مِن نفي غفلة اللهِ عن عمل الفريقين؛ الوعدُ بوفاء الأجر للمؤمنينَ، والوعيدُ على تكذيب المكذبين.
(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ) اللام في (وَلَئِنْ) موطئة للقسم، دالة على قَسم محذوف، و(إِنْ) بعدها شرطية، و(أَتَيْتَ) فعل الشرط (بِكُلِّ آيَةٍ) الآية الحجةُ والبرهان، فهم لا ينقادون للحجة والبرهانِ، مهما أتيتهم مِن الآياتِ، وأكثرتَ منها (مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) جوابُ القَسم المقدّر، اكتفي به عن جواب الشرط، لتقدم القسم عليه، والمعنى: لا طمع في اتباعهم قبلتك؛ لأن المانع لهم ليس شبهةً قامت عندهم، تزيلُها الآية والحجة والبرهان، وإنما المانع العناد والمكابرة، وهذا داءٌ لا دواء له، كما قال أسلافهم: (مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ)[6] (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) قطع لأطماعهم في رجوع النبي صلى الله عليه وسلم لِقبلتهم، وأُكد بدخول الباء في خبر ما النافية، ووقوع النكرة في سياقها، الدالة على عموم نفي الاتّباع لهم على أيّ وجهٍ من الوجوه، فإنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لو ثبتّ على قبلتِنا لَرَجوْنا أن تكونَ صاحبنَا الذي ننتظرُه ونتبعَكَ، فجاءهم الردّ حاسمًا، أنّ هذا مما لا طمعَ فيه (وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) هذا يشير إلى تعددِ قبلة أهلِ الكتاب؛ فاليهود تعودوا استقبال الصخرة، والنصارى مشرق الشمس، وما أحد منهم بتابع قبلة الآخر، ولا بمتابع لك في قبلتك.
(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) ولو وقع – على سبيل الفرض والتقدير – متابعتك لأهوائهم ورغباتهم فيما تمنوه عليك، في أمرِ القبلة أو في غيرها، بعد ما علمت خلافه من الوحي، وجاءك فيه الحقّ، لو فُرض وقوعُ ذلك منكَ لكنتَ من الظالمين، وهو خطابٌ للنبيّ صلى الله عليه وسلم على الافتراضِ والتنزّلِ؛ لأنّه جيءَ فيه بـ(إنْ) الدالةِ على ضعفِ احتمال الوقوعِ، بعدَ القطعِ بنفيِهِ في قوله: (وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ)، ولأنه صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياءِ معصومونَ عنِ الكبائر، فضلًا عن متابعةِ اليهودِ والنصارَى.
[1]) إبراهيم: 37.
[2]) الحج:25.
[3]) الموطأ: 463.
[4]) مسلم: 527.
[5]) البخاري: 41.
[6]) الأعراف:132.