المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (80)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (80)
(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة:146 – 149].
(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) هم علماء أهل الكتاب من الأحبار والرهبان، والضمير في (يَعْرِفُونَهُ) للنبي صلى الله عليه وسلم، فهم يعرفون صفته ونبوته – لا ذاته – من كتبهم معرفة كاملةً، لا تلتبس عليهم، ولا تشتبه، ولذلك قال عبد الله بن سلام لعمر رضي الله عنهما: “أعرفه كما أعرفُ ابْني، ومعرفتي لمحمد أشد”([1]).
(وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ليسوا كل علمائهم علِمُوا وكتموا، بل فريق منهم كتم الحق بعد أن علمَه، ومنهم آخرون انقادوا للحق وآمنوا به حين تبيّنَ لهم، كعبد الله بن سلام من اليهود، وتميم الداري وصهيب من النصارى، رضي الله عنهم جميعًا.
(الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) كلام مستأنف مبتدأ وخبر، و(أل) في الحق إما للعهد، أي أنّ الحق الذي يكتمونه هو الحق المعهود، الذي أنت عليه، والذي هو من ربك، وإما للجنس، أي: الحق هو ما ثبت أنه من الله سبحانه وتعالى، كالذي أنت عليه، لا ما لم يثبت، كالذي عليه أهل الكتاب (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) الامتراء: الشك والتردد، والخطاب في (لا تكوننّ) إمّا لكل من يتأتى منه الخطاب غير معين، بمعنى لا ينبغي لكل من عرف الحقّ أن يشك فيه، كائنًا مَن كان، أو الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد تحذير مَن يقع منه الشك من أمته، على حدّ قوله سبحانه وتعالى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)([2])؛ فإنّه صلى الله عليه وسلم معصوم، لا يكون منه الشكّ في أنّ ما أُنزلَ إليهِ هو الحقّ مِن ربّه، ولا الشكّ في أنّ فريقًا منهم يكتمونَ الحقّ وهم يعلَمون.
(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) (كل) اسم مبهم، والتنوين فيه عوضٌ عن الإضافة، والإضافة المقدرة هي التي تبين إبهامه، والتقدير: ولكلّ أهلِ ملةٍ (وِجْهَةٌ) بقعةٌ مِن الأرضِ يتجهُون إليهَا (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) خطابٌ للمسلمين وغيرهم، والمعنى: ولكلّ أهل ملة مِن المسلمين واليهود والنصارى بقعةٌ مِن بقاعِ الأرض، يتجهونَ إليها، فاسبقوا أنتم إلى الخيراتِ باستقبالِ الكعبةِ، قبلة أبيكُم إبراهِيم، ويمكنُ تقدير المضاف إليه خاصًّا بالمسلمين، أي: ولكل طائفةٍ مِن المسلمين جهةٌ مِن الكعبة يستقبلونَها، فأسرعُوا إلى عملِ الخيرات بعامة، وَتسابَقوا إليها، ومنها اعتناؤُكم بأمرِ القبلة، والتوجه في صلاتِكم إليها.
والضميرُ في قوله: (هُوَ مُوَلِّيهَا) يمكنُ رجوعه إلى المتوجه، المولّي وجهه من أممِ الأرضِ إلى قبلتِه، ويصحّ أنْ يكون مرجع الضمير إلى اسمِ الجلالة، وإن لم يجر له ذِكرٌ؛ لأنه معلوم أنّ فاعلَ ذلك هو الله، أي: لكلِّ صاحبِ ملة قبلةٌ اللهُ موليها إياه.
(أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (أين) اسم استفهام، أداةُ شرط، وما زائدة، و(تَكُونُوا) تامة، والمعنى: في أيّ جهةٍ، وحيث ما وُجدتم من الأرض، فاللهُ قادرٌ على الإتيانِ بكم إليه، وذلك في الدنيا والآخرة، في الدنيا عندَ قبضِ أرواحِكم، وفي القيامةِ عند حشرِكم للجزاءِ؛ لأنه على كل شيءٍ قدير، لا يعجزه شيءٌ، فاستبقوا إلى الخيرات، وكُونوا عند الإتيانِ إليه بالمكانِ الذي تحبّونَ.
(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) حيث ظرفُ مكان، مضافة إلى جملة (خَرَجتَ) لأنّها تُضاف إلى الجملِ، ولا تضافُ إلى المفردِ، أي: مِن أي مكان أو جهة توجهت في سفركَ، فولّ وجهك في الصلاة شطرَ المسجد الحرام، فليس في الاستقبال رخصةٌ بتركِه في السفر، والضَّمِيرُ فِي (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) راجعٌ إِلى تحوِيلِ القبلةِ، وقد كُررَ الأمرُ باستقبال الكعبة مفصّلا ومبينًا أتمّ بيانٍ، وُجّه فيه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) وللمسلمين مرتين: (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ)، وأكدَ أيضًا بتكريرِ قوله: (وإِنَّهُ للْحَقُّ مِن رَّبِّكَ) ثلاثَ مرات، والحكمة مِن التكرير على هذا النحو؛ التنويهُ بِشَأْنِ القبلة، وتعظيمُ أمرِها، ولأنّ النسخَ مِن مظانّ الفتنةِ والشبهة، التي قد يتعلق بها من لم يتمكن الإيمان من قبله، وسمّاه اليهودُ بَداء، وذلك يستدعِي أن يؤكّدَ، ويعاد الأمر به المرةَ بعدَ المرة، بالإضافة إلى أنّ كلّ أمرٍ بالاستقبال في مرّاتهِ الثلاث، اقترنَ بعلةٍ وسبب يختلفُ عمّا قبله، فالعلة الأولى مِن الأمرِ بالتحولِ إلى الكعبة كانت إكرام النبي صلى الله عليه وسلم، بإعطائه ما كان يتطلع إليه ويتمناه، وهو قوله: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا)، والثانية التذكير بما أجراه الله تعالى مِن السننِ، أن يولّي أهل كلّ ملة وجهةً يستقبلونَها، تُناسبُ أحوالهم، وهو قوله: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا)، والثالثة ردّ حجج المخالفين الداحضة، ودفع شبههم الزائفة، بتسميةِ النسخِ بَداء، وهو قوله: (قُلْ لِلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ).
[1]) شرح البيجوري: 43.
[2]) الزمر: 65.