طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير –  الحلقة (81)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

 الحلقة (81)

 

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) [البقرة:150 – 152].

 

تقدم الكلام في قوله: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)، وقوله: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) (ال) في الناس تصلحُ أن تكون لاستغراق الجنسِ، فتعمّ كلّ الناس، على معنى: لئلا يكونَ للناس عامة على الله حجة، ويصلحُ أن تكون للعهد، فيكون المراد بالناسِ السفهاء مِن المشركين واليهود، الذين تكلموا في تحويل القبلة.

والحجة: الدليل المُثبت للمطلوبِ، واستعملت هنا بمعنى المجادلة والمخاصمة، ولو كانت بالباطل، كما في قوله تعالى: (حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ)([1])، وكقوله:  (لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ)([2]) أي: لا مجادلة،  فهي بمعنى المتمسَّكِ، سواء كان صحيحًا في نفسه، أو في زعم قائله.

والمعنى: حولت القبلة إلى الكعبة قبلةِ أبيكم إبراهيم، الذي يزعمون جميعًا انتماءَهم إلى ملته؛ لئلا تكون عليكم حجةٌ في قولهم: (ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها)، فلا تبقى لهم حجة إلا الظلم، والمجادلة بالباطل، وهو معنى: (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) فالاستثناء ليس لإثبات الحجةِ للذين ظلموا، بل للمبالغة في نفيها عنهم على أبلغ وجه، على معنى: إن تكن لهم حجة فهي الظلم، والظلمُ لا يمكن أن يكون حجة، فهو مِن تأكيدِ الشيء بضده، وإثباته بنفيه، كما تقول: ما لَكَ عليّ حجة إلا أنْ تظلمني، على حد قول النابغة:

ولا عيبَ فيهم غيرَ أنّ سيوفَهم بهنّ فُلولٌ مِن قِراعِ الكتائِبِ

(فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) لا تخافوا مطاعن السفهاء، فإنّ شبههم لا تضرّكم، وخافوني بالطاعة لما أمرتكم بهِ، وفي هذا النهيِ والأمرِ التقليلُ مِن خشيةِ كلّ أحدٍ سِوى اللهِ سبحانه وتعالى (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) عطفٌ على قوله: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) فهو علة أخرى لامتثال الأمر بالتوجه إلى الكعبة، أي: وجَّهتُكم إلى الكعبةِ لأتمّ نعمتي عليكم، بالتوجه إلى أفضلِ البقاعِ على الأرض، أول بيت وضع للناس، وتحصل لكم الهداية، والعاقبة الحسنة، والنعمة هي الموت على الإسلام، ودخول الجنة، ولا تَتمُّ نعمةُ الله على عبدٍ حتى يدخلَه الجنة.

وعليه؛ فإتمام النعمة – وهي دخول الجنة – معناه إعطاؤها وافرة كاملةً، مِن بادئِ الأمر، لا تكميلها بعد أن كانت ناقصة، وفي معناه قوله تعالى عن كلمات إبراهيم: (فَأَتَمَّهُنَّ) أي: امتثلهن امتثالا كاملا، لا أنه فعلَ بعضها ثم أكمَلَها.

(كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ) الكاف في (كما أرسلنا) للتشبيه، نعت لمصدر محذوف، وما مصدرية، أي: ولأتم نعمتي عليكم بما أمرتكم به في شأن القبلة – التي كانت عاقبتها عليكم حميدة – أتمها إتماما، مثل إتمامها عليكم بإرسال رسول منكم إليكم بلسانكم (يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ) التلاوة تتابع ما يتلو بعضه بعضًا، والمراد قراءة آيات القرآن، والتبليغ بها من وقت نزولها، للعملِ بها وإظهار إعجازها.

والتزكية تطهير المشرك من الكفر، وتطهير المسلم من النقائص، فتلاوة آياتِ القرآن عليكم تحصل بها التزكية والتطهير بمعنييه، وقُدمت التزكية في هذه الآيةِ على التعليم؛ لأنها المقصد مِن التعليم، فالتعليم بلا تزكية كالعلم بلا عمل، لا فائدة منه، وأُخرت التزكية في الآية التي مضت: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ)[3] باعتبارِ وجودِها، لترتُّب التزكيةِ على التعليم في الوجود الفعليّ.

(وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (الْكِتَاب) هنا القرآن، باعتباره تشريعا وأحكامًا، بخلاف الاعتبار الأول في قوله: (يتلو عليهم آياته)، فتلاوتها باعتبارها معجزة (وَالْحِكْمَةَ) السنة وأصول الفضائل (وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) تعميم يعمّ تعليمهم كلّ ما ليس بأحكام وأصول فضائل، مما يشمل سياسة الأمة وأخبار الأولين وأحوال الآخرة، ونحو ذلك، وأعيد العاملُ (وَيُعَلِّمُكُمْ) مع صحة الاكتفاء بعطفه على ما قبله؛ ليفيد مغايرة ما بعد العاملِ لِمَا قبلَه، وأنه تعليمٌ آخر، وليس من عطف المرادف.

(فَاذْكُرُونِي) الذكر تقدم معناه عند قوله سبحانه وتعالى: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ)([4])، وهو مأمور به أمر إرشاد، لمن وفقه الله لاستحضاره في قلبه وعلى لسانه في كلّ وقت، وعند الإقدام على كلّ ما يفعلُ وما يتكلم، فيقف به ذكر الله عند أمر الله تعالى ونهيه، فلا يتجاوزه (أَذْكُرْكُمْ) بالعناية والتوفيق والتسديد والنصرة والتأييد في الدنيا، وبالثواب الجزيل ورفع الدرجات في العقبى (وَاشْكُرُوا لِي) الشكر تقدم معناه في أول الفاتحة، عند الكلام على الحمد، وشكَرَ تتعدى بنفسها وباللام، مثل نصَحَ، تقول: شكرتُه وشكرتُ له، ونصحتُه ونصحتُ له، وبهما معًا، والمفعول الثاني هنا مقدرٌ، أي: اشكروا لي ما أنعمتُ به عليكم (وَلَا تَكْفُرُونِ) النون الموجودة في تكفرون نونُ المتكلم، حذفت ياؤه تخفيفًا، أصلُه تَكفُرونِي، وحذفت منه نون الفعل لجزمه بالنهي، ومعناه جحَدَ، والمصدر الكفران؛ بمعنى جحْد الفضائل، وجحد الفضائل  درجات، يشمل التنكر للإحسان، وتجاهل النعم والتنصل منها، وأسوأه وأخسّهُ سبّ صانعِ المعروف.

والتنكر مذموم طبعًا وشرعًا؛ لأنه ينٌمُّ عن قلة الوفاء، وهي خصلةٌ تنزهت عنها حتى الكلاب، قال صاحب الشاطبية([5]):

وَقَدْ قِيلَ كُنْ كَالْكَلْبِ يُقْصِيهِ أَهْلُهُ وَمَا يَأْتَلِى فِي نُصْحِهِمْ مُتَبَذِّلاَ

ومِن ذم الجحود في الشرع كفرانُ العشير، ذكرَهُ النبيّ صلى الله عليه وسلّم – عندما خطبَ في النساء يوم العيد – وقال إنّه من أسبابِ دخولهن النار، وبيّنَه بقوله صلى الله عليه وسلّم: (لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ)([6])، وأوسطُ الكفرانِ في القبحِ القصدُ عمدًا إلى السكوت عن الإحسانِ، وإخفاء النعمة، وتجاهلها، وأقلّه سوءًا السكوتُ عن شكرِ المعروفِ غفلة، لا عن قصدٍ؛ لأنه تقصيرٌ، لا يليقُ بذوِي المروءاتِ.

 

[1]) الشورى: 16.

[2]) الشورى: 15.

[3]) البقرة: 129.

[4]) البقرة: 40.

[5]) حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع.

[6]) البخاري: 1004، مسلم: 907.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق