المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (97)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (97)
(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) [البقرة:186-187].
(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) بعد أن أمر الله تعالى عباده بما هو حقٌّ له عليهم – فيما افترضهُ من الصيام وإكمال العدة، وإرشاده إلى تكبيره على ما هداهم – أرشدهم إلى تحصيلِ ما لهم عليه، فخاطب نبيَّه صلى الله عليه وسلم، تعظيمًا لشأنه وتفخيمًا لقدره، بقوله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي).
أي: إذا سألكَ عبادِي عن ربّهم؛ عن التوجّه إليه بالدعاءِ وكيفيتهِ، وكونه سرًّا أو جهرًا، وعمّا يقرّبُهم منه لينالوا مرضاته، فقل لهم إنّي قريب، وكأنّ الله تعالى بهذا يوجّهُ عباده إلى أن يتعرضوا في أوقاتهم بصفةٍ عامةٍ، وفي رمضان بصفة خاصةٍ لفضلِ عطائِه، بعد أن أمرهُم بالقيام بفرضِ صيامِه، فيقولوا متضرعين: هلْ لنا بعد القيام بالصيام والتكبير والحمدِ على إتمامِ العدةِ مِن قَبول وجائزة، إنْ سألْنا ودعَونا؟ فأجابهم الباري سبحانه بقوله: (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) إنّي منكم قريب، قربَ المطَّلعِ العليمِ الخبيرِ بأحوالكم؛ سرّكم وعلانيتكم، أسمعُ كلامَكم، وأرى مكانَكم، وأجيبُ سؤْلَكم، وأَقبلُ الخالص مِن دعائكم، وجملة (فَإِنِّي قَرِيبٌ) جواب للشرط (وَإِذَا سَأَلَكَ)، والجواب أتى من الله جلّ جلاله رأسًا دون واسطة، فلم يقل: “فإنه قريب” كما هو السياق، بل التفت الخطاب إلى ضمير المتكلم: (فَإِنِّي قَرِيبٌ) وبدون ذكر قُلْ، أي: قلْ لهم إنّي قريبٌ، كما في نظائره من السؤال الوارد في القرآن، كما في قوله: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ)([1]) ونحوه، وذلك للتنبيه في مسألةِ الدعاءِ على شدّةِ قربِ العبدِ مِن ربه، حتى إنه لا يحتاج مع هذا القرب إلى واسطة تتكلم وتترجمُ عنه، بل أتاه الجواب رأسًا مِن ربّه: إني قريب.
وليس في الشرط (إِذَا سَأَلَكَ) وجوابه ما يدل على عموم تحققِ الإجابة لكلّ سائلٍ؛ لأنّ جواب (إذا سألك) الدال على عموم التحقق والوقوع هو (فَإِنِّي قَرِيبٌ)، وهذا – أي القرب – عمومٌ حصوله متحقق، وعلى فرض أن قوله: (أجيبُ دعوة الداعي) أيضًا مرتبطٌ بجوابِ الشرط (إذا سَأَلَكَ)، ويقتضي عموم تحقق الإجابة لكل سائل، فعموم حصول الإجابة متوقفٌ على توفرِ الشروط، التي دلّت عليها الأدلةُ الأخرى، المخصصة لهذا العموم؛ مثل الإخلاص في الدعاء، وأكل الحلال، وعدم الاعتداء في الدعاء، ونحو ذلك (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) بالطاعة وأداء الفرائض، وزيادة السين والتاء في الفعل استجاب للتأكيد، والمبالغة في طلب الامتثال (وَلْيُؤْمِنُوا بِي) يداوموا على إيمانهم، وما يقتضيه مِن العمل (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) بذلك يتحققُ لهم الرشدُ، الذي هو إصابةُ الحق.
(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) ليلة الصيام هي الليلة التي يليها الصيام، فالليل في عرف الشرع سابق النهار، ويكون الليلُ دومًا لليوم الذي يليه، لا للذي قبله، عدَا ليلتين فقط، خرجتَا عن هذه القاعدة؛ ليلة عرفة التي تلي يوم التاسع من ذي الحجة، وليلة المحصب التي تلي اليوم الثالث من أيام الرمي، وهي ليلة النفْرِ مِن مِنى، فإنهما لليوم الذي قبلهما، وأمّا قوله سبحانه وتعالى: (ولاَ اللَّيلُ سَابِقُ النّهَارِ)([2])، فالسبق المنفي فيه هو بمعنى التخلص والانفكاكِ، أي: لا ينفكان، وليس بمعنى الأولية والتقدّم (الرَّفَثُ) كناية عن المباشرة والجماع، وأصل الرفث الكلام في الالتذاذِ بالنساء، والإفصاح عنه بما يُستقبح ذكره، مما ينبغي في العادة أنْ يكنى عنه؛ لأنّ الجماع لا يخلو من ذلك، وعدي الرفث بإلى لتضمنه معنى الإفضاء، وقد أباحت هذه الآية ما كان المسلمون ممنوعين منه في أولِ فرضِ الصيام، كان يحلّ لهم في ليلة الصيام الأكل والشرب ومباشرة النساء مِن أولِ الليلِ إلى أن يرقدوا، فإذا ما غلب أحدَهم النومُ ثم احتاج إلى أهله وقعَ في المحظور، وحدثَ ذلك لعمر رضي الله عنه، فأتى واعتذرَ للنبي صلى الله عليه وسلم، فقام رجال واعترفوا بأنهم فعلوا ذلك، فنزل التخفيفُ ورفع الحرج، بإباحة ما كان ممنوعًا ليلة الصيام (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) هذا كالسببِ والتعليلِ لما أحل لهم ليلة الصيام، بعدما كان ممنوعًا، فإنّ سببه شدةُ حاجةِ كلّ واحدٍ من الزوجين للآخر، وقلة صبره عليه، وملازمته له، حتى كأن كلَّ واحد منهما لباسٌ لصاحبه (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ) تختانونَ مِن اخْتانَ مزيدُ خانَ، مصدره الاختيان، وهو أبلغ من الخيانةِ، كالاكتسابِ والكسب، فإنّ زيادةَ المبنَى تدلُّ على زيادةِ المعنى، ومعناهُ تحرك الشهوة لملابسةِ ما نُهوا عنه، وهذا مِن تكملة السببِ الداعي لرفعِ الحرج، بإباحة ما مُنعوا منه، فإن الله تعالى علم أنهم وقعوا في الإثم، وفعلوا ما ظلموا به أنفسَهم، حيث صاروا يغشونَ المحظورَ خفيةً وخلسةً (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) لمَّا تَأَثّمتم واعتذرتم عما كانَ يقعُ منكم (وَعَفَا عَنْكُمْ) قَبل منكم اعتذاركم وندمكم، فعفى وصفح، ورفع عنكم الإصر (فَالْآنَ) بعد أنْ تبيّن الحكم (بَاشِرُوهُنَّ) الأمرُ بالمباشرة وما بعدها من الأوامر كلّها للإباحة؛ لأنه أمرٌ بعد الحظر، وأصل المباشرة مماسة البشرة للبشرة، ويكنى بها عن الجماعِ (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) اطلبوا ما كتبه الله لكم من مباشرة النساء، وما قدره الله لكم فيه من الولد؛ فإنه من مقاصدِ النكاح، الذي جعلت وسيلته الشهوة، ليرغب فيه البر والفاجر، حتى يتحققَ المقصدُ الأصليّ، وهو عمارة الكون بمَن يعبدُ الله، أو ابتغوا في المباشرة المحلَّ الذي أذنَ لكم فيه، دون غيره مِن المباشرةِ في الدبر.
[1]) البقرة: 215.
[2]) يس: 40.