المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (98)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (98)
(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [البقرة:187].
(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) الأمرُ بالأكل والشرب في القرآن للإباحةِ (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) الخيط الأبيض: الضوءُ الممتدُّ أفقيًّا وسط الظلمة، وهو الفجر الصادق (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) حتى لابتداء الغاية، يبتدئ الأكلُ من أولِ الليل، وتنتهي غايته بالفجر، فإذا تبين وجب الكفّ؛ لأنّ حتى تنتهي عندها الغاية، ولا تمتد معها، فلا يصلح دخول ما بعدها فيما قبلها، بخلاف إلى، فإنها قد تمتد معها الغاية، كما في قوله بعد: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) لذا جاء معها الترغيب في تعجيل الفطر، حتى لا يفهم منها امتداد الصيام المأمور به إلى جزءٍ من الليل، وفي إباحة المباشرة إلى تبيّنِ الفجر دليلٌ على جواز الإصباح بالجنابة، وعلى صحة صوم الجنب (مِنَ الْفَجْرِ) مِنْ بيانية، والجملة في موضع الحال، والمعنى: فالآن بعد ما علمتم أنّ الله أحل لكم ما كان ممنوعًا من الأكل والشرب والمباشرة، فلكم أن تأكلوا وتتمتعوا بهذه الطيبات ليلة الصيام، وأن تقصدوا بالمباشرة ما كتب الله لكم مِن الولد، وذلك الحكمُ يمتدُّ طول الليل من ليالي الصيام، إلى أن يتبين لكم أول ظهور الفجر، وفي معنى هذه الآية جاء حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه، قال: لما نزلت (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) عَمَدْتُ إِلَى عِقَالٍ أَسْوَدَ وَإِلَى عِقَالٍ أَبْيَضَ، فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ فِي اللَّيْلِ فَلَا يَسْتَبِينُ لِي، فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ رسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ: (إِنَّ وِسَادَكَ لَعَرِيضٌ)([1]) وفي رواية: (إِنَّكَ لَعَرِيضُ القَفَا، إِنْ أَبْصَرْتَ الخَيْطَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: لاَ بَلْ هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ، وَبَيَاضُ النَّهَارِ)([2])، فتخطئةُ عدي أتتْ من أنه فهم (مِنَ الْفَجْرِ) متعلق بـ(يَتَبَيَّنَ)، لا بمعموله (الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ) فبيَّن له النبي صلى الله عليه وسلم الصواب في الآية.
(ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) عطف على جملة (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا)، والترتيب في العطف بثمَّ ترتيبٌ رُتبيّ، وليس حسيًّا، ارتفاعًا برتبة الصوم على رتبة الأكل والشرب، وهو الكثير في عطف ثم للجمل، وجاء التعبير بأتمُّوا بدل صوموا؛ لأنهم مستمرون، وسبقَ لهم صومٌ.
(وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) الجملة معطوفة على جملة (فَالآنَ بَاشِرُوهُنّ)، وتقدم أن معنى المباشرة الجماع، والاعتكاف من العكوف، وأصله في اللغة الملازمة وحبسُ النفس، ثم نقل في الشرع إلى الاحتباس واللبث في المسجد لقصد القربة، وقد كانوا في أولِ الأمرِ يعتكفون في المسجد، ويخرجون للنساء، فنهاهم الله عن ذلك؛ لأن الاعتكاف انقطاع للعبادةِ والتأمّلِ، وتفرغ مِن كل شواغل الحياة، وفي الآيةِ ما يدل على اشتراط أن يكونَ الاعتكافُ في المسجد؛ لأن النهي عن المباشرة حال الاعتكاف في المساجد يستفاد منه أمران: الأول النهي عن الخروج من المسجد لأجل النساء، الذي كان يحصل منهم، والثاني أن الاعتكاف يتطلب مسجدًا، يخرج منه المعتكف إلى ما حصل النهي عنه، ولا يتبادر منه النهي عن الوطء في المساجد؛ لأن ذلك لا يخطر ببالهم (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) (تِلْكَ) إشارة إلى ما تقدم من الأحكام التي شرعها الله تعالى (حُدُودُ) جمع حدٍّ، والحد هو الحاجز الفاصل بين شيئين، والمراد به الأوامر والنواهي المبينة للأحكام المتقدمة، ومنها ما هو فرائض، كفرض صوم رمضان ووجوب قضائه، ومنها ما هو مندوب، كتكبير الله سبحانه وتعالى وتعظيمه عند الانتهاء من الصوم، ومنها ما هو مباح، كالمباشرة والأكل والشرب ليلة الصيام إلى طلوع الفجر، ومنها ما هو رخص للتيسير والتخفيف، كفطر المريض والمسافر، ومنها ما هو منهي عنه، كالمباشرة حال الاعتكاف، فالالتزام والتقيد بهذه الأحكام على ما وردت، في الفرض بعدم التهاون فيه، والمندوب بالرغبة إليه، والمباح بعدم الإعراض عنه، والرخصة بعدم التنطع والتآبي عنها، التقيد بهذه الأحكام ذوات الحدود المحددة المبينة على وجهها، هو التقيد والالتزام بحدود الله (فَلَا تَقْرَبُوهَا) لا تقتربوا من انتهاكها بعدم التقيد بها، فضلا عن أن تنتهكوها وتتعدّوا عليه بالفعل، فالنهي عن الاقتراب من الشيء أبلغُ وأحوط من النهي عن التعدي عليه، وهذا مما يدخل في قاعدة سدِّ الذرائع، المتفق عليها في الشريعة (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (كَذَلِكَ) تقدم الكلام في مثل هذه الكاف واسم الإشارة، هل هو إشارة إلى ما تقدم من الأحكام التي بُيّنت، أو الغرض منها التهويل والتفخيم لما سيلقى بعدها، وتقدم توضيح ذلك في قوله تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)([3]) (آيَاتِهِ للنَّاسِ) آياته القرآنية الدالة على أحكامه وحدوده (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) رجاء أن يصلوا بالتقيد بها إلى التقوى ومخافة الله تعالى، والترجي معناه تأميل حصولِ المرغوب، وهو محالٌ على الله، فالوارد منه في كلام الله عزّ وجلّ منظورٌ فيه إلى حال المكلَّفين، لا إلى الخالق سبحانه.
[1]) أبو داود: 2349.
[2]) البخاري: 4510.
[3]) البقرة: 143.