المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (99)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (99)
(وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:188].
النهي عن أكل أموال الناس بالباطل معطوف على النهي عن الاقتراب من حدود الله والتعدي عليها، في قوله: (تلكَ حدودُ اللهِ فلا تَقربُوهَا)، والأموال جمع مال، وهو ما يتملكه الناس، مما يعين على ما تقوم به الحياة.
وأكل المال بالباطل هو أخذه بغير وجه حقّ، بنية عدم إرجاعه، سواء أكله آخِذُه، أو استعملَه لغرضٍ آخر، وخصّ الأكل بالنهي لأنّه مِن أعظم أغراض آخذِ المال عند الناس، والباطل خلاف الحق، من بطلَ الشيء إذا ذَهبَ وتلاشَى، فما أُخذ بغير حقٍّ على وجهٍ لا يبيحه الشرع، سواء لحقّ الله أو لحقّ العبد، سرعان ما يذهب ولا يبقى، وتبقى حسرته، والفعلُ (تأكلُوا) وقعَ في سياق النهي، فيفيد العموم في مقدارِ الأكل، قليله وكثيره، وفي المخاطَبين بهِ، فيعم جميع المكلفين، و(أموالَكم) يفيد العموم في جميع الأموالِ، الثابت منها والمنقول، المادية منها؛ كالدينار والدرهم والضيافة والهدايا والسفريات، والمعنوية؛ كالرضا عن صاحب المنصب وتمكينه ، وإعطائه الصلاحيات ليجور ويخون الأمانة، ومقابلة الجمع (تأكلوا) وهم المخاطبون بالجمع في ( أموالكم)، تقتضي القسمة آحادًا، فكل فردٍ منهيٌّ عن أن يأكل بعضًا من المال بالباطلِ، لكن كل فرد في المخاطَبين يقابَل بفردٍ غيره، أي: لا يأكل بعضُكم مالَ بعض، فإن الشخصَ لا يأكل عادةً مال نفسه بالباطل، فهو كقوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)([1])، أي: لا يقتل بعضكم بعضًا، والآيةُ أصلٌ عظيم في حرمة الأموال، والتحذير من التعدي عليها.
وأكل المال بالباطل أبوابه كثيرة؛ منها أبواب الربا، وعقود الغرر، والقمار والميسر، والغصب والتعدي، وأكل مال اليتيم، والغلول، والخيانة، والسرقة، والغش والاحتيال، والرشوة وهي موضوع هذه الآية.
(وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ) بعد النهي العام عن أكل المال بالباطل، عُطف عليه نوع خاص مِنه؛ لخطورته وبالغ ضرره على أمن المجتمعات، وهو رشوة الحكام في المحاكم والنيابات والإدارات المالية والأمنية والعدلية، وخُصت رشوة الحكام بالنهي؛ لأن ظهورها وتفشيها عنوان اضمحلالِ الأمة وسقوطها، وانهيار المجتمع، وأصلُ الإدلاء إرسال الدلو في البئرِ لنزع الماء، فالراشي يقدم المال ويرسله لينتزع به ما لا حقَّ له فيه، والمعنى: لا تُعطوا وترسلوا بالأموال للحكام رشوة، لتنتزعوا بها أموال الناس بالباطل، والباء في قوله (بِهَا) لتعدية الفعل، والضمير يعود على الأموال، والْحُكَّامِ في قوله (لتدلوا بها إلى الحكام) يعمّ كل من يُرفع إليه شيءٌ يتعلق بحقوق الناس ليفصل فيه، ويشمل في أيامنا ما يلي:
– الرؤساء والوزارء والهيآت والمؤسسات العامة، ومن يمثلونهم مِن اللجان المختصة بالنظر في طلبات الناس بحقّ من حقوقهم.
– من يعطلون القضايا ويمتنعون عن النظر فيها، دون سبب مشروع، من القضاة والنيابات، على مختلف درجاتهم، وكلما عَلَت الدرجة في المحاكم عظمت المسؤولية، واشتدَّ الوعيد.
– مَن يعرقلون تنفيذ الأحكام بعد صدورها، أو يضللون القضاة، مِن المعاونين والكتَّاب والشهود والمحضرين.
– الأجهزة الأمنية والشرطية، التي تداهم وتقبض وتسجن وتعذب على خلاف القانون، أو تعمل على إخفاءِ المحاضر والمستندات وتعطيلها، لمصلحة بعض الأطراف، فمن يسعى مِن هؤلاء جميعًا إلى منع صاحب حقٍّ من حقه وإعطائه لغيره، أو إلى إدانة بريءٍ أو تبرئة مجرم أو تستر عليه، أو ينتقي في القضايا التي تحوَّل إليه، بأن يحكمَ في بعضِها ويعطلَ أخرى، مَن يفعل من ذلك شيئا نظير مصانعة بمال أو منافع أخرى؛ كالإبقاء في منصب ووظيفة، أو مقابل تقديم خدمة له أو لقرابته في مكان آخر، أو غير ذلك من المصانعة، كالضيافات والهدايا، كل ذلك يدخل في رشوة الحكام، التي هي السحت والنار، فقد جاء عن عمر وعلي وابن مسعود وزيد ابن ثابت وجماعة من التابعين في السحت بأنه الرشوة، وقال صلى الله عليه وسلم: (كلّ لحمٍ نبتَ مِن سُحت فالنارُ أولَى بهِ)[2].
وفي حكم مَن ذُكر في أيامنا أيضًا جوْر المحكَّمين، وشِبههم من اللجان والمجالسِ والهيئات، التي يسند إليها الفصل فيما مِن شأنه المنافسة على الحقوق المالية، أو غيرها؛ كالاعتمادات المستندية وعقود المقاولات والصيانة ونحوها، مثل التقدم لشغل الوظائف، أو منح الدرجات العلمية، وغير ذلك.
فكل مَن يوكل إليه شيءٌ مِن هذا ولا يعدِلُ فيه بين المتقدمين، فيُعطي مَن لا يستحقّ، ويمنعُ مَن يستحقُّ، نظيرَ مالٍ يأخذه مِن بعض الأطرافِ، أو مصانعة بمنافعَ أخرَى كالحظوة والضيافات والسفريات والهدايا، أو يفعل ذلك لأجل الرضى عنه، بإبقائه في تلك اللجنة أو الوظيفة، كل ذلك مِن الرشوة في الحكم، والخيانة في الأمانة، وإن لم تُسَمّ باسمها عند أصحابها.
وأقبحُ أنواعِ الرّشى وأشدها نكدًا على الأمة وإضرارًا بالمسلمينَ، الأكلُ بالدِّين، وإرضاءُ السلاطين والحكام أو مَن دونهم من المسؤولينَ، على مختلفِ مستوياتهم، في الإدارات والمؤسسات المالية أو غيرها، إرضاؤهم مِن بعض من ينتسبونَ إلى العلم بفتاوى (مَشّي حَالك)، يجعلُ بها السلاطين ظهورهم جسرًا إلى جهنم، ومطيةً لجورهم وانحرافهم واستقرارِ عروشهم بسلطان الدينِ، ويجدها المسؤولون في المستويات الدنيا سندًا يُماشي أهواءهم، التي لا توافق شرعَ الله؛ ليستكثروا بها من الدنيا، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ …)([3])، وفي حديث بريدة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ، فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا، فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ)([4]).
واللام في (لِتَأْكُلُوا) للتعليل، أي: لا تعطُوا الأموالَ للحكامِ لأجلِ أن يأكلَ الراشون والحكام، ومَن في حكمهم (فَرِيقًا) جزءًا وطائفةً (مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ) فـ(مِن) للتبعيض، والباء للمصاحبة، أي: لتأكلوا بعض أموال الناس حال كون أكلكم مصاحبًا للإثم (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الجملة حالية، تأكلونه مع علمكم بإثمه، فالراشون يعلمون إثم المال الذي يمَكِّنُهم منه الحكام بأحكام الجوْر، والحكام يأكلون الإثم بما يأخذونَه من الرشاوى.
وفي قوله: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) تشنيعٌ بآكل المال الحرام؛ لأنه يأكله وهو عالم به، إذ أكله مع العلم به أشدُّ قبحًا ممن وقعَ فيه عن جهلٍ، وذلك لقيام الحجة عليه، وفي الآية دليل على أنّ حكم الحاكمِ لا يحللُ الحرامَ، فمَن حكم له بالبراءةِ وهو يعلم أنه قاتل، فالحكم ببراءته لا يسقط عنه عقوبة الدنيا، ولا عقوبة النار التي توعد اللهُ بها القاتل، وكذلك مَن حكم له بشيءٍ يعلمُ أنّه لا حقّ له فيه، لا يصير بالحكمِ له حلالًا.
[1]) النساء: 29.
[2]) مسند أحمد: 3 / 399.
[3]) البقرة: 174.
[4]) أبوداود: 2943.