(بيانُ مجلسِ البحوث والدراساتِ الشرعية بدار الإفتاء اللِّيبية بشأنِ الإصلاحِ الاقتصاديّ والمالي)
(بيانُ مجلسِ البحوث والدراساتِ الشرعية بدار الإفتاء اللِّيبية بشأنِ الإصلاحِ الاقتصاديّ والمالي)
بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ
الحمدُ لله ربّ العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فإن مجلس البحوث والدراسات الشرعية بدار الإفتاء، وهو يتابع الفسادَ المالي المستشري في جسم الدولةِ، وبخاصةٍ من المتنفذين فيها، ويتابعُ كذلك الاعتمادَ المفرطَ من عامة الناس على المرتبات الحكومية، التي اقتربَ رقمُها من السبعين مليارًا، ويتزايد في مخصصات الميزانيّة العامة، شهرًا بعد شهر، زيادةً مخيفةً، غير مسيطرٍ عليها، تنذرُ بتداعياتٍ خطيرة، تؤدي إلى العجز عن دفع المرتبات يومًا ما، فيجوع الناس، وبوادرُ ذلك ظهرتْ فيما أبلغَ به المصرف المركزي مؤخرًا إدارة الميزانية، بعجزهِ عن مرتبات شهر أكتوبر الماضي، مما اضطرَّ الحكومة إلى المداينة لصرفِ المرتبات.
عليه؛ فإن المجلسَ – حماية لحياة النّاس وأموالهم وأرزاقهم، واستشعارا للمسؤولية الشرعية – يبيّن ما يلي:
1- الحفاظ على حياة الناس وأموالهم وأرزاقهم من الضروريات في الدّين، التي اتفقت عليها المللُ والأديانُ والشرائع السماوية، وكذلك كلّ قوانين الأرض المحترمة، وتضييعُها مهلكةٌ للأمم، ومعصيةٌ لله ورسوله، قال الله تعالى: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة: 194[، وقال تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) [البقرة: 187[.
2- إزاء هذا الواقع المؤلمِ وخطورةِ تداعياته، وحفاظًا على الحد الأدنى من الاستقرار المالي والأمني والاقتصاديّ والغذائي، فإنّ محاربة الفساد المالي والإداري يجبُ أن تكون على رأس الأولويات، وسبيلُ ذلك يتمثل في أمرين؛ الأول: حماية الحريات وأرواح الناس، وحمايةُ مال الميزانية العامة من النّهب والتجاوزات التي صارت مُقنّنة ، والثاني: كفُّ الأيدي عن صناديق الاستثمار الخارجية، التي صارتْ – حسبَ ما جاء في تقرير ديوان المحاسبة الأخيرِ – تتآكلُ حتى تكاد تختفِي بالكلية، والوعيدُ على التعدي على حرمات الأنفس، وامتداد الأيدي للمال العام شديد، فإنَّ الله تعالى بعد أن حذّرَ من التعدي عليهما قال: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) ]النساء:30[، وسمَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم امتدادَ الأيدي للمال العام غلولًا، وذكرَ أن مَن يَغُل ويأخذُ من المالِ العام شيئًا بغير حق، يأتي به يحملُه على عنقه يوم القيامةِ على رؤوسِ الأشهاد، ويقولُ: يا رسولَ الله أغثني، قال: فأقولُ له: (لا أملكُ لك من الله شيئًا، قد بلغتك) [أخرجه البخاري ومسلم.[
3- يجبُ شرعًا العمل على تنوعِ مصادرِ الدخل، والحدّ من الاعتماد على المرتباتِ؛ حمايةً للميزانية العامة، التي تُستنزفُ في المرتبات المُهدرة بصورةٍ متزايدةٍ، غيرِ محسوبةٍ ولا منضبطة، وتنوّعُ مصادر الدخل يتطلبُ وضع خُطة من خبراء مختصينَ في المال والاقتصادِ، قصيرةِ المدى ومتوسطةٍ وبعيدة؛ لإيجاد مشاريعَ تنموية، تُرتَّب في تنفيذها حسبَ أولوياتها، فتعيدُ الثقةَ إلى الناسِ، وتحررهم من التعلّقِ بالمرتبات.
4- من مظاهرِ إهدار المال العام؛ استمرارُ دعم الوقود وغيرِه في الميزانية العامة؛ لأن أغلبَ هذا الدعم الذي هو بالملياراتِ يذهبُ إلى جيوبِ المهربينَ والسرّاق؛ لذا الواجبُ الشرعيُّ وقفُه، والعملُ على إعطاء البدل عنه نقدًا، على وَفق الدراساتِ المعدّة لذلكَ مِن قبل اللجانِ المشكلةِ بالخصوص، عن طريقِ كتيباتِ العائلةِ أو غيرِ ذلك، وكذلكَ استبدال النفط بالمحروقات، وما يصحبه من غياب في الشفافية، يجب شرعًا أن يتوقف؛ حفاظا على المال العام.
5- ليبيا بلدٌ مصدرة للنفط، وعليهِ اعتماد ميزانياتِها ونفقاتها، لذا ينبغي أن يكونَ على رأسِ مشاريعها
التنمويةِ صناعةُ مشتقاتِ النفط، وفي مقدمتِها توفيرُ البنزين والديزل، الذي يستنزفُ توريدُه جزءًا كبيرًا
من الميزانية العامة، وكذلك مشاريع استكشافِه وتطوير حقوله.
6- النفطُ – لأهميته السابقة في الاعتماد عليه – يجبُ تحريره من التجاذباتِ السياسية، والضربُ بيد من حديد على من يريدُ توظيفه لصالحِ توجهٍ سياسي، فقد تكررَ قفلُ حقول النفط في الماضي عدّة مراتٍ، ممن يسمونَ أنفسَهم حرس المنشآتِ النفطيةِ؛ استجابةً لجهاتٍ تحرّكُهُم، وحصلَ تهاونٌ كبيرٌ في المسؤولية الجنائية بهذا الشأنِ، من الجهاتِ الأمنيةِ والنيابية والقضائية، أدّى إلى خسارةِ مئاتِ المليارات، وإفلاتِ المجرمين من العقاب، وهو تهاونٌ خطيرٌ مع جريمةٍ هي مِن الحرابةِ والتعدّي على مصدرِ حياة الناسِ بقوةِ السلاح، فلا يجوزُ أن يتكررَ هذا التهاون في العقوبةِ مع من يتلاعبُ بقوتِ الناس.
7- تُعطَى أيضًا أولويةٌ في المشاريع التنموية للصناعاتِ التي موادها الخام محليةٌ، كالموجودة في باطنِ الأرضِ وفي الجبال والوهاد، والشركاتُ الكبرى في العالم تعرفُها، وتتسابقُ للحصول عليها لو فُتح لها الباب، وكذلك تُعطَى أولويةٌ لإعادة صناعة المخلفاتِ التي تملأُ الطرقات، ويُتجَه في هذه المشاريع إلى الاعتناء بحلِّ المشاكلِ الإسكانية للشبابِ، والاعتناءِ بالبنيةِ التحتية؛ كالصرف الصحيّ، والمياهِ، والطاقةِ، والتعليمِ، والصحةِ، والزراعةِ، والصناعة؛ لأنّ الحاجة إلى البنية التحتية – التي تكاد تكون منعدمةً في بلادنا بالكلية – شديدةٌ وملحّةٌ.
8- فيما يخصُّ مشاريع التنمية المحلية، بالإضافةِ إلى شركة الاستثمار الخارجي، والشركاتِ التابعة لمؤسسة النفطِ وهيئة الاتصالات والمنطقةِ الحرةِ، فإنّ القطاع المصرفي هو الجهةُ الأكثر تأهيلًا للإسهام في المشاريع التنمويةِ، التي تفتح باب سوقِ العمل للشباب، لمَا لدَى المصارف من أموالٍ مجمّدة، ومِن خلال استقطابِها أموالَ المودِعين، ولا يتحقق للمصارف ذلك إلّا إذا أُطلقت يدُها الممنوعة من الدخول في سوقِ العمل والتجارة، وتخلصت مِن الفكر السائدِ في أوساطها، أنها بمقتضَى القوانين لا يحقّ لها التجارة، وهو ما جعل يدها مغلولةً ممنوعةً من الانطلاقِ في المشاريع التنمويةِ، ذات الطابع التجاري والصناعي الواسعِ؛ لأن استثمار أموالها في نظرِ بعض المصرفيينَ حِكرٌ على الفوائد المضمون ربحها، وهذا ما نراه إلى حدِّ الآن، مِن أن مشاريعَها تدور في فلكِ نظرية الفائدةِ تحتَ منتجاتٍ قليلةٍ محدودة؛ أسماؤُها شرعية، وحقيقتُها ربوية.
9- إذا تحررت المصارف من ذلك، سنرى منتجاتٍ تجاريةً وصناعيةً إسلاميةً حقيقيةً، كثيرةً ومتنوعةً، يثقُ فيها المودعونَ، فتتدفقُ أموالهم على المصارفِ في مشاريع المشاركات والاستصناع والمضاربة والمزارعةِ وغيرها، وتنحلّ بذلكَ أزمةُ السيولة وغيرُها من الأزمات، وعلى رأسِها الوصول إلى الكسبِ الحلالِ، والتخلّص من المعاملاتِ المشبوهة.
10- رؤوس الأموال الخارجية ينبغي التشجيعُ على استقطابِها لبناء مشاريع ضخمة، في بناء المدنِ وشبكاتِ السكك الحديدية ونحوها، لكن بشرط أن يكون بقاؤُها ومشاركتُها في المشاريع منتهيًا، ومؤجّلا بمدةٍ محددة ترحلُ بعدها، لا أن تبقَى بصفةٍ دائمةٍ كما يصنعُ المحتلّ، وهو ما يفعله عملاؤُه لبلادِنا في الوقت الحاضر.
11-التحذير من السماح بالتدخلات الخارجية من السفراء وموظفي البعثة الأممية في الشؤون الداخلية للبلد، فيما هو ليس من اختصاصهم، ولا علاقة له بأعمالهم، فلا يجوز شرعاً للمسؤولين في ليبيا تمكينهم من ذلك، فيما ينتهك سيادة البلد على خلاف القانون؛ فإن الله تعالى يقول (وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) [النساء:141] ويقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ) [الممتحنة: 1].
12- هذا البيان موجهٌ إلى كل غيورٍ وحريصٍ من المسؤولين، يعنيهِ أمرُ ليبيا، وعلى رأسِهم:
– المجلس الرئاسي.
– حكومة الوحدة الوطنية ومؤسساتها (المؤسسة الوطنية للنفط ـ المؤسسة الليبية للاستثمار والشركات المحافظة التابعة لها ـ جهاز تنمية وتطوير المراكز الإدارية ـ هيئة الاتصالات).
– المصرف المركزي والمصارف التجارية العاملة.
ـ المجلس الأعلى للقضاء.
ـ المحكمة العليا.
ـ النائب العام.
ـ ديوان المحاسبة.
ـ الرقابة الإدارية.
– وزارات المالية والتخطيط والاقتصاد والصناعة والزراعة والداخلية والدفاع والصحة.
– المجلس الوطني للتطوير الاقتصادي والاجتماعي.
ـ مجلس التخطيط الوطني.
ـ الأمن الداخلي.
ـ جهاز المخابرات العامة.
ولإنجاح ذلكَ؛ يدعو مجلس البحوث إلى عقدِ ملتقى موسّع، يُدعَى إليه أهلُ المال والاقتصاد في المؤسساتِ ذات العلاقةِ، ومنهم الأكاديميون في الجامعات، والباحثون في مراكز البحوث والمؤسسات المالية والمصرفية؛ لمناقشة ما ذكر في هذا البيان، للإسهام بورقاتٍ بحثية معمّقة، تنتهي إلى مقترحٍ لإصلاح ما يمكن إصلاحهُ، مما جاءَ في هذا البيان.
وفقكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مجلس البحوث والدراسات الشرعية بدار الإفتاء
الثلاثاء: 01 جمادى الآخرة 1446 هـ
الموافق: 03-12-2024 م