(بيانُ مجلس البحوث والدراسات الشرعية بدار الإفتاء الليبية، في حكم الركون إلى الظالمين، وما يجري في الخفاء من الصفقات المشبوهة)
(بيانُ مجلس البحوث والدراسات الشرعية بدار الإفتاء الليبية، في حكم الركون إلى الظالمين، وما يجري في الخفاء من الصفقات المشبوهة)
بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فإنّ مجلس البحوث والدراسات الشرعية بدار الإفتاء الليبية، وهو يتابع ما يجري هذه الأيام من ممالأة للظلمة القتلة، متمثلاً في هرولة بعض ضعاف النفوس من عدة مدن ليبية، في أنحاء ليبيا، لتزلّفهم لحفتر وأعوانه؛ لَينكر ذلك أشد الإنكار، ويَعُدّه تعدياً وعدواناً على البلد، وعلى حدود الله وأحكامه وحرماتِ المسلمين.
هؤلاء الظلمة الذين يهرول إليهم ضعاف النفوس الطامعون، هم من يخدم المشروع الصهيوني في المنطقة، وعن طريقهم يتم الدعم لقتل المسلمين المستضعفين في السودان وإبادتهم،وهم من سفكوا الدماء المعصومة في ليبيا، وحفروا القبور الجماعية، وأشعلوا الحروب، وأخرجوا الناس وهجّروهم من ديارهم، ودمروا اقتصاد ليبيا، ونهبوا أموالها، وتحملوا كِبْرَ ما آل إليه أمرُ البلاد، وتخريب الديار.
وإنّ المجلس أيضاً لَيستنكر أشد الإنكار، الصفقاتِ القذرةَ التي تَزكُم رائحتها النتنةُ الأنوف، وتكتم الأنفاس، وتجري هذه الأيام في الخفاء؛ لإفلات بعض كبار المجرمين الذين أُدينوا في المحاكم من القِصاص، وذلك من أجل كسبٍ خبيثٍ وطمعٍ رخيص، عاقبته النار وبئس القرار، في غياب كامل لحكومة الوحدة الوطنية ووزارةِ عدلها، المسؤولةِ مسؤوليةً مباشِرة على مَن هم في قبضة العدالة، وعدمُ علمِ الحكومة بذلكَ لا يعفيها من المسؤولية الشرعية والتاريخية.
وإزاء هذه المظاهر المنحرفةِ؛ كان من واجب مجلس البحوث والدراسات الشرعية بدار الإفتاء الليبية، أن يذكِّرَ الليبيين بالحقائق التالية، ليَهلكَ مَن هلكَ عن بينة، ويحيا مَن حَييَ عن بينة:
أولاً: إنّ من يشدّ الرحالَ إلى مجالس حفتر ومن معه من الظلمة، من وفودِ التزلف والنفاق، لا يمثلون المدن الليبية، وإنما يمثلون أنفسهم بمدح كاذبٍ، في موقف ذلّ وصَغار وعارٍ، لا تمحوه الأيام، ويستوجب شرعاً من مدنهم وأهليهم النبذَ والاحتقار، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأَيْتُم المدَّاحينَ فاحثُوا في وجوهِهم التُّرابَ) أخرجه مسلم.
ثانيًا: السعي إلى المجرمين ليس صلحاً ولا إعماراً، بل استسلام وركون للظالمين، يستوجبُ النار، قال الله تعالى: {ولاَ تَركَنُوا إِلى الّذينَ ظَلَمُوا فتَمَسّكُم النَّار} هود: 113، وقال تعالى في التبرؤ من المجرمين: {رَبّ بمَا أنعَمْتَ علَيّ فَلنْ أكُونَ ظَهيراً للْمُجرِمِين} القصص: 17، وهو ينذر بعقوبةٍ عامة، قد لا يسلمُ منها أحدٌ، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: (إنّ الناسَ إذا رأَوا الظالمَ فلمْ يأخذُوا على يَديهِ أوْشَك أن يعمّهم اللهُ بعِقاب) أخرجه أبوداود والترمذي.
ثالثاً: إنّ مَن يتقدمُ للحديثِ باسمِ مدينته، أو يَعُدُّ نفسَه مِن وجهاءِ بلدته، ثم يناصرُ المعتدين ويركنُ إلى الظالمين، على تلكَ المدينة شرعاً أن تتبرأَ منه، ويقاطعه أهلها، وينبِذوهُ ولا يعامِلوه، وكذلك على عامةِ الناس أن يخرجوا في الميادينِ للتنديد بهم والإنكارعليهم، حتى يتوبُوا ويرجعوا، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بنبذ ومقاطعةِ من فعلوا أقل من ذلك، الذينَ تخلفوا عن غزوة تَبُوك، لم يتمالؤوا ويظاهروا العدو، بل لمجردِ تخلفهم عن الخروج معه إلى الجهادِ لقتالهم، أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناسَ جميعاً بنبذهمْ، حتى زوجاتهم قاطعنهم، إلى أن ضاقتْ عليهم الأرض بما رحُبت وضاقت عليهم أنفسهم، قال الله تعالى: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) التوبة: 119.
رابعاً: إنّ الدفاع عن المجرمين، سواء بالوسائل القانونية لدى المحاكم، أو بالوسائل الاجتماعية والشفاعات؛ محرمٌ شرعاً، فلا تحلّ الشفاعة في مجرم بعد الحكم عليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن حالتْ شفاعته دونَ حدٍّ مِن حدودِ الله، فهو مُضاد للهِ في أمره) أخرجه أبوداود وأحمد ،وقال الله تعالى: (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) النساء :106.
خامسا: إن حماية المجرمين مِن العقاب أو التستر عليهم، جريمةٌ شرعية وقانونية، ملعونٌ صاحبها، مطرود من رحمة الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل) أخرجه البخاري.
سادسا: المصالحة إذا أحلت حراماً أو حرمت حلالا، كانت إثماً ووزراً على الساعين فيها، تستوجب غضب الله، لا الأجرَ كما يتوهمون، فعليهم أن يحذروها، وحمايةُ المجرمين الذين ثبتَ وُلوغهم في دماء الأبرياء، وأُدينوا في المحاكم بالقتل والإجرام، حمايتهم من القِصاص والعفوُ عنهم افتياتًا على أولياء الدم؛ هو من تحليل الحرام، الذي حذّر منه النبي صلى الله عليه وسلم، كما تقدم.
سابعا: التمادي في الهرولة إلى الظالمين له تداعيات غاية في الخطورة، فإنه إذا لم يضعِ الناسُ له حدًّا ويتداركوا أمرهم، يؤول إلى تمكين حفتر ومن معه من الظلمة من بسط نفوذهم على المنطقة الغربية، وحينها تُكَمَّم الأفواه، ومن ينبِس ببنتِ شفةٍ يُخطف ويُنكّل به، وما حدث في مدينة الزاوية بالأمسِ لمن قرأ بيان الاستنكار على المهرولين؛ لأمر مخيفٌ، ينذرُ بهذه العاقبة.
نسألُ الله تعالى أن يلهِمَ الغافلينَ رشدهم؛ لينتبهوا قبل أن يخسَروا أنفسهم وأهليهم، وأن يصلحَ حال بلادنا، إنه سميعٌ قريبٌ مجيب.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
مجلس البحوث والدراسات الشرعية بدار الإفتاء
الأحد 25 جمادى الأولى 1447هـ.
الموافق 16-11-2025م.