بيان وتوضيح لما صدر عن اللجنة الإعلامية بدار الإفتاء الليبية بــخصوص (المداخلة)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (2135)
ورد إلى دار الإفتاء سؤال بتاريخ: 01/ربيع الأول/1436هــ الموافق 2014/12/23م، يقول فيه:
صدَرَ عن اللجنة الإعلامية بدار الإفتاء الليبية مقالٌ، مفاده أن جماعةً اعتلت المنابر في ليبيا، وأن هذه الجماعة التي نعتتها اللجنة الإعلامية بــ(المداخلة)، تشتغل لصالح استخبارات أجنبية، وهذه دعوى خالية عن دليل وبرهان، والغريب أن الساحة الدعوية في ليبيا تعج بالجماعات والفرق، التي عندها انحراف عن الحق، قليلا كان أو كثيرًا، ولم يأتِ ذكر لها في أيٍّ من بياناتكم، بل قد يصدر عنكم بين الفينة والأخرى ما يشعر بالدفاع عنهم، فلم نسمع منكم ولو نقدًا عابرا لأي جماعة من الجماعات، وهذه الجماعات قد أسهمت إسهاما واضحا في إرباك المشهد الليبي، شأنها شأن باقي الأحزاب الموجودة على الساحة، ثم إنه قد صدر لكم في غير ما موضع، كلامٌ مفاده أنه لا ينبغي تفريق الأمة إلى جماعات، واليوم تصنفون جماعة بتسمية جديدة، وتسمونها بــ(المداخلة)، وتتهمونها بالعمالة لجهات أجنبية، وهذه تهمة مؤلمة، علما بأن عددا كبيرًا ممن تنعتونهم بــ(المداخلة)، قد أبلوا بلاء حسنًا في جبهات القتال؛ في حرب فجر ليبيا ضد عصابات الكرامة وجيش القبائل، ومن قبلها في الثورة، وقدموا مَن نحتسبهم عند الله شهداء، فنريد منكم أن تنصفونا نحن معشر السلفيين، وتبينوا موقف الدار والمفتين بها، من البيان الصادر عن اللجنة الإعلامية؛ لأن البيان سالف الذكر أحدث فتنة وربكة، وقد يترتب عليه ما لا تحمد عقباه؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإن المتأمل في واقع الأمة الإسلامية، يجد أنّها تعيش حالة غير مسبوقة من التفرق والتحزب والانقسام، الأمر الذي أذهب ريحها، وصيرها لا تملك قرارها، فسُلبت إرادتها، وتسلط عليها أعداؤها، قال الله تعالى ذامًّا الافتراق وأهله: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَب رِيحكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّه مَعَ الصَّابِرِينَ).
ولهذا فإن دار الإفتاء تدعو جميع الناس، مهما اختلفت انتماءاتهم وتوجهاتهم، إلى الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، على فهم السلف الصالح، نابذين الأهواء والتعصب خلف ظهورهم، تاركين التسميات على اختلافها، فإن التسمي بأي اسم غير الإسلام، إذا صار التسمي به تحزبًا يُوالَى ويُعادَى عليه، كان مذموما؛ كما بيّن ذلك علماء الدعوة السلفية الخيّرين، من أمثال الشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين.
وقد صارت الجماعات الإسلامية – للأسف – فرقا وأحزابا، بينها عداء شديد، ونفور وخصومات، وكلها تتسمى باسم السلفية، وهذا يدل على أنه ليس كل من يتسمى سلفيا هو كذلك، وإلا لَما تعارضت وتناقضت أقوال من يتسمون بهذا الاسم، والدعاوى تحتاج إلى بينات كي تصدقَها، فليس كل من انتسب إلى السلف صادقًا في انتسابه، فقد يتسمى البعض بالسلفي أو بالأثري، والسلف والآثار منه براء، ومجرد القول بأن هذه الجماعة بعينها هي التي تمثل التوجه السلفي؛ لأنها تعمل بالكتاب والسنة، أو أن شيخها مزكى، مجرد هذا القول لا يرفع النزاع؛ لأن مخالفهم يقول كذلك أيضا.
لذا؛ فإن العدل أن تقول للمخطئ أنت مخطئ، أيّا كان انتماؤه وتوجهه، وأيًّا كان اسمه، لكن بالخطاب العلمي الهادئ، المؤسَّس على الحجة والدليل، لا على السب والشتم واللعن.
وفي ظلّ الافتراق والاختلاف المشاهد، بين الجماعات الإسلامية، يظهر جليًّا لكلِّ ذي لبٍّ وعقلٍ، أن ثمة جماعةً موجودةً على الساحة الدعوية، تفسّقُ وتبدّع مَن خالفها، ولو في أمرٍ اجتهاديٍّ قابلٍ للخلاف، فكانت هي المقصودة بالكلام الصادر عن اللجنة الإعلامية بدار الإفتاء.
وما ذكره السائل الكريم مِن أن اللجنة الإعلامية نعتت هذه الجماعة بــ(المداخلة)، وهذا يزيد الانقسام الذي نحذر منه!
ربما الذي دعا اللجنة الإعلامية إلى ذلك، هو أن هذه الجماعة عُرفت بين الناس بهذا الاسم، وذِكر اللقب لمجرد التعريف لا يستدعي ذمًّا، ولا يُعد غيبةً ولا لمزا، ولا يخفى على أهل العلم ما لقب به أئمة أعلام، كالأعمش والأعرج والحذاء وابن المسيب وابن راهويه، وغيرهم كثير.
فذكر مثل هذا لا حرج فيه، إذا كان للتعريف، أو للتمييز، بحيث لا يحصل لبس في كلام اللجنة الإعلامية، فيُظن أنه موجهٌ إلى كل التوجه السلفي، فلعل هذا هو ما جعلهم يتحوطون بذكر الاسم، حتى لا يُساء الفهم، فالتوجه السلفي الذي يبحث عن الدليل، وينبذ التعصب، والذي هو منهج كل الأمة الأخيار، ينبغي على كل مسلم أن يكون عليه، ويتوخاه سلوكا ومنهج حياة.
إن دار الإفتاء لا تجاملُ أحدا، فقد صدرت عنها رسالةٌ صغيرة، بحجم كتيِّب الجيب، بعنوان: (مراجعات في المنهج)، منشورة على شبكة الانترنت، لمن يريد الاطلاع عليها، تعرضت للعديد من الجماعات الدعوية في ليبيا، وذَكَرتْها بأسمائها دون مجاملة، والتي منها – ربما – ما كان يعنيه صاحب السؤال، عندما قال: (هناك جماعات بها انحراف قليل أو كثير، لم يأت ذكر لها في أي من بيانات دار الإفتاء).
وقوله: (لم نسمع منكم ولو نقدا عابرا لأي جماعة من الجماعات)، في الجواب عن هذا، تُحيل دار الإفتاء السائل الكريم إلى الرسالة المشار إليها: (مراجعات في المنهج)، فسيجد فيها كل ما ظن أن دار الإفتاء قصّرت فيه.
لقد أوضحت دار الإفتاء في (مراجعات في المنهج) بالدليل النقلي والحسي المشاهد، وذكرت الجماعات بأسمائها، وما أحدثته هذه التسميات من فرقة وانقسام وعداوات بين العلماء وطلاب العلم، لم تكن فيها من قبل.
وقد أشرفت دار الإفتاء مؤخرا على عقد ملتقى للعلماء، دعت فيه إلى التمسك بالكتاب والسنة، ووجوب تحكيم شرع الله في حياة الناس، وجعله منهج حياة، وأدانت فيه كلّ من ينهج نهج الغلوّ في الدين، سواء بالتفريط والتقصير، أو بالإفراط والتكفير، والخروج على الولاية الشرعية ومؤسسات الدولة.
إن المتأمل في منهج هذه الجماعة، المذكورة في السؤال، يجد أنهم جاؤوا لنصوص واردة عن السلف في شأن المبتدعة الخلّص، وأنزلوها على أناس من أهل السنة الخلَّص، فكيف يستقيم ذلك؟!
كما أنه قد شاع بين هذه الجماعة دون غيرها الإسراف في تجريح الناس وتصنيفهم وتبديعهم، ووصفهم بأوصاف شنيعة مستنكرة، وبخاصة العلماء منهم، لم يكن لأهل العلم عهد بها، حتى إنهم لشدة حرصهم على متابعة مخالفيهم، يصنفون في مثالبهم رسائل خاصة، ويذكرونهم بأوصاف جارحة مؤذية، لا تجد لها نظيرا فيما استعمله قدماء أئمة هذا الفن، أوصافٍ تُشعر كل من يسمعها، أنها إلى التشفي أقرب منها إلى الذبّ عن السنة والدين، وقلّ من علماء الإسلام، ممن ليس من جماعتهم، مَن يسلم من تجريحهم ومن التنفير منه، حتى أحدثوا عداوات وفرقة بينهم وبين علماء الأمة غير مسبوقة، وهذا لا يليق بالعلماء، الذين وصفهم الله تبارك وتعالى في كتابه بالقسط، وقرن شهادتهم بشهادته، فقال تعالى: (شهد الله أنهُ لا إلَهَ إلّا هوَ والملائكةُ وأولُو العلمِ قائمًا بالقسطِ).
ومع هذا فإن التعميم خطأ، وهو من آفات ومعوقات التفكير السليم، فلا نحكم على كل فرد من أفراد هذه الجماعة على حدة، فقد يكون منهم صالحون، التبس عليهم الأمر، فإذا كان منهم – كما جاء في كلام السائل – مَن أبلَوا بلاء حسنا في جبهات القتال، في حرب فجر ليبيا ضد عصابات ما يسمى الكرامة، وما يسمى زورا جيش القبائل، ومِن قبلها في قتال عدو الله، منكر السنة المطهرة القذافي، إذا كان فيهم من كان كذلك، وقدّموا مَن نحتسبهم عند الله شهداء، مَن كان منهم على هذه الحال التي ذكرها السائل، فإننا نغبطه عليها، ونحبّه؛ لأنه بدفاعه عن الحق وأهله، صارت محبّته – لما فيه من الخير، وبذل أغلى ما يملكه من أجله – فرضًا علينا، ولا نظن باللجنة الإعلامية بدار الإفتاء، بمن كان كذلك، إلا أنها تحبه وتقدّره.
والمقصود من كلام اللجنة الإعلامية فيما نظن، هم أولئك الذين يطعنون في دار الإفتاء، وفي علماء البلد، وينفرون الناس منهم، وعندما نقول ذلك لا نعني التنقص من علماء البلاد الأخرى، فإننا نقدر أهل العلم جميعا، وذكر البلد عندما نذكره إنما هو فقط؛ لما لا يخفى من الارتباط بين النوازل ومناطات الأحكام، التي قد تختلف باختلاف المكان، فأهل كل بلد أدرى بأحوالها، والمذهب الفقهي السائد في بلادنا هو بحمد الله من أصول مذاهب أهل السنة والجماعة، وقد بُنيت عليه أعرافُ وعادات هذا البلد، في عقود النكاح وعقود التبرعات والبيوع والمعاوضات، فلا يليق بمن يتصدى للمنابر رميُه بالخرافة، أو التقليل من شأنه!
كما أن المقصود بكلام اللجنة الإعلامية، هم أولئك الذين تخلوا عن المشاركة في قتال القذافي، عندما قام الناس عليه في أول الثورة، ووصفوا القتال بأنه قتال فتنة، ووقفوا اليوم مع قوّات الظلم والعدوان، المتمثلة في قوات حفتر، والمعروفين بجيش القبائل، والكرامة، وأعطوهم فتاوى وغطاء شرعيًّا، يبرر انتهاكاتهم للحرمات، وسفكهم للدماء المعصومة، مِن شباب السلفية أنفسهم في بنغازي والجبل الغربي، متحالفين مع حفتر، ومع القعقاع والصواعق، وبقايا كتائب القذافي، ويقنتون بالدعاء جهارا في المساجد لما يسمى الكرامة، فلعل هذا هو الذي جعل اللجنة الإعلامية تقول ما تقول، فهذه الأفعال مما يدرك بالمشاهدة، ولا يحتاج معها إلى دليل.
ولا ارتباط بَين مَنْ يعتنق هذا المنهج الخاطئ، في موقفه من المعارك الجارية، أو في التنفير على المنابر من العلماء، وبين السلفية الحقة، كما هو بيّن.
وادّعاء العمل بالكتاب والسنة من أي جماعة، لا يعطيها العصمة من الخطأ، ودار الإفتاء من جهتها كذلك لا تدعي العصمة، وهي بكل كوادرها العلمية، تفتح بابها لكل من يقول النصح من أهل العلم، منبِّها لها على خطأ أو تقصير، ولا خير فيهم إن لم يقولوه، ولا خير فيها إن لم تسمعه، فلم يجعل الله تعالى العصمة لأحد من هذه الأمة بعد نبيّها صلى الله عليه وسلم، فكل ابن آدم خطّاء، وخير الخطائين التوّابون، كما جاء في الخبر، والرجوعُ إلى الحق، خيرٌ من التمادي على الباطل.
كما تدعو الدار جميع الدعاة وطلبة العلم، إلى التسمي باسم الإسلام، الذي سمانا به ربنا سبحانه وتعالى في كتابه، وتذكرهم بدورهم المنوطِ بهم، في تبصير الناس وتوجيههم إلى الخير والفلاح، وتصحيح الأعمال والنيات، والرقي بالأمة، والصدع بالحق والعمل به، فإن الإيمان اعتقاد وقول وعمل، يزيد بزيادة العمل، وينقص بنقصانه، قال الله تعالى: (وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا)، وتدعوهم إلى احترام العلماء والأئمة المتقدمين، والبعد عن تصنيف أهل العلم، والاستهزاء بهم، فهذا هو الذي لا تحمد عقباه، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، ونعوذُ بالله من أن نكونَ مِن الجاهلين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
03/ربيع الأول/1436هـ
25/2014/12م