توضيح وتبيين في موضوع الصلح عن الدية في القتل الخطأ
رد على اعتراض بخصوص الصلح عن الدية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (4019)
ورد إلى دار الإفتاء الليبية مِن بعضِ المتابعينَ – من أهل العلم – لإصدارات الدار إشكالٌ مفادُهُ: أنّ الصلحَ عن الدية الصادرِ عنِ الدار في القتلِ الخطأِ، في الوضعِ القانوني الراهنِ – الذي يقضي بحبسِ الجاني ما لم يتنازلْ له أهلُ المجنيّ عليه – فيه نظرٌ، وأن المصالحة مع الجاني في هذه الحالة – حسبما جاء في الإشكالِ الواردِ على الدار- تحرمُ، حتى يُفرِج عنه أولياءُ المقتول؛ لأنه لا يجبُ عليه مِن الديةِ إلّا بقدرِ حصتهِ كأحدِ أفرادِ العاقلةِ.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فالدّية – وإن كان الأصل فيها أنها على العاقلة – فهي اليومَ في مالِ الجاني وحده؛ لعدم إلزام القانون العاقلةَ بالديةِ، بسبب عدم فرض آليّة لذلك؛ ولتعذّر أخذها مِن بيت المال؛ لذا فإنه في أيامنا إذا لم يؤخذ من الجاني ما يقدر عليه من الديةِ، فإنّ دمَ المقتول يذهبُ هدرًا، وهذا لا يجوزُ، ولَا يقولُ به أحدٌ، قال التّسوليّ رحمه الله: “تَنْبِيهَانِ الأول: فِي نَوَازِل العَلَمِي أَنه لَا عَاقِلَة فِي هَذَا الزَّمَان، وَلَا يُمكن الْوُصُول لبيت المَال، فَالدِّيَة فِي مَال الْجَانِي”، ثم قال: “قَالَ أَبُو الْحسن: وَكَانَ الْفَقِيه رَاشد يُفْتِي بِأَنَّهَا فِي مَاله أَخَذَ ذَلِك من قَول ابْن الْقَاسِم فِي الْمعَاهَد يَقتُلُ مُسلمًا خَطَأً إِن ذَلِك فِي مَاله، إِذْ لَا يُتَوَصَّل إِلَى عَاقِلَته وَبَيتُ المَال مُتَعَذر اهـ. قال ابْن رحّال: وَمَا أفتى بِهِ الْفَقِيه رَاشد يُقَوّي القَوْل بِأَن دِيَة الِاعْتِرَاف على الْمقر؛ لِأَن بَيت المَال الْيَوْم مُتَعَذِّر، وَالْأَخْذَ من الْقَبَائِل كَذَلِك بِلَا ريب، فَإِن الْأَخْذ من الْقَبَائِل إِنَّمَا يكون بسطوة السُّلْطَان، والاعْتِنَاءُ بِذَلِكَ مِنَ السُّلْطَان غيرُ كَائِن، اهـ. وَهَذَا صَرِيح فِي أَن الْأَخْذ من الْعَاقِلَة مُتَعَذّر الْيَوْم؛ لِعَدَمِ اعْتِنَاءِ السَّلاطين بذلك” [البهجة في شرح التحفة: 2/624،627].
وبناء عليه؛ فإن الاعتراض بأنّ الصلحَ وقع إكراهًا على مالٍ لم يجبْ على الجاني لا يتمُّ؛ لأنّ المال واجب عليه عند تعذر العاقلةِ وبيتِ المال، حتّى لا يذهَب دمُ المجنيّ عليه بلا شيءٍ، وما دام المالُ واجبًا عليهِ فجبرُهُ على دفعِهِ لا يعدُّ إكراهًا، لأنّ الإكراهَ بحقٍّ ليس إكراهًا، كمنْ أجبرَ على أداءِ الدَّين بحكمِ القاضِي.
وأمّا طلبُ تقييدِ فتوى دار الإفتاءِ السابقة، بألّا يقَع الصلحُ مع أولياءِ القتيلِ إلَّا بعدَ الإفراجِ عن القاتلِ؛ لئلّا يكونَ هناك إكراهٌ للجاني على الصلحِ – فإننَا حتى لو افترضنا وجودَ الإكراهَ – فإنّ تقييدَ الصلح بالإفراجِ معناهُ التنازل عن الشقّ الجنائيّ؛ إذِ الإفراجُ لا يتم – قانونًا – إلَّا بالتنازلِ، وإذا حصلَ التنازلُ سقطت الدية، ولم يبقَ بسقوطِها صلحٌ ولا إكراهٌ.
وأيضًا لما يترتب على هذا التقييد من الدورِ، فإننا إذا جعلنَا الصلحَ متوقفًا على الإفراجِ حتى لا نقعَ في الإكراهِ كما يقول، فإنّ الإفراجَ ذاتهُ متوقفٌ على التنازلِ، الذي لا يرتفع الإكراهُ على الصلحِ عنده إلا بهِ.
ولأنه بهذا التقييدِ لا تثبتُ الديةُ إلا بانتفاءِ الإفراجِ والتنازلِ، ولا يثبتُ الإفراجُ إلا بما يؤدّي إلى انتفاء الديةِ، وهو التنازل، وما أدّى إثباتُهُ إلى نفيهِ وجبَ نفيهُ، أو نفيُهُ أوْلى كما في القواعدِ، واللهُ أعلم.
وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
أحمد ميلاد قدور
عبد الدائم بن سليم الشوماني
الصّادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
06// ربيع الأول// 1441 هـ
03// 11// 2019م