طلب فتوى
الفتاوىقضايا معاصرة

حكم إضراب المساجين المظلومين في السجون عن الطعام

حكم من مات بسبب الإضراب عن الطعام

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

رقم الفتوى (5623)

 

ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:

ما حكم إضراب المساجين المظلومين في السجون عن الطعام؟ وهل يعدُّ الإضرابُ شكلا من أشكال الجهاد ضد الظلم؟ وهل يحكم على المضربِ عن الطعامِ حتى الموتِ بالشهادةِ أم الانتحار؟

الجواب:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

فإنَّ الله تعالى يبتلي عباده في هذه الحياة الدنيا بأنواعٍ من الابتلاءات والفتن، قال سبحانه وتعالى: ﴿لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلۡخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ﴾ [الأنفال: 37]، وهذه الابتلاءات والفتن تمحيصٌ واختبار، قال سبحانه وتعالى: ﴿أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ 2 وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ﴾ [العنكبوت: 2]، وإنَّ خيرَ ما يتقوَّى به المؤمنُ على مواجهةِ هذه المحنِ، هو ما أرشدَنا اللهُ إليه في كتابه، حين قال سبحانه وتعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ﴾ [البقرة:153]، وما زال الأنبياء والعلماء والمصلحونَ يُسجنونَ ظلمًا وعدوانًا، من قِبل الطغاةِ المستبدين، ومازالَ المظلومونَ يصبرونَ ويحتسبونَ للهِ ربّ العالمين، لكن هذَا الصبرَ لا يمنعُ المسجونَ من الأخذِ بكل وسيلة مشروعةٍ وسببٍ مباح، لرفعِ الظلمِ وكسرِ القيد، فالإسلامُ لم يأمرنا بالخنوعِ للظالم، ولا الاستكانةِ له والسكوتِ عنه.

والإضرابُ عن الطعامِ داخلَ السجونِ، وسيلةٌ معاصرةٌ للضغط على الظلمةِ أمامَ الرأي العام، خصوصًا مع انتشار وسائل الإعلام الحديثة؛ كمنصات التواصل الاجتماعي وغيرها، وقد آتتْ أكلها في كثيرٍ من الأحيان، بتحسينِ أوضاعِ المسجونين، أو النظرِ في قضاياهم، أو الإفراج عنهم.

وهذا الإضرابُ إمَّا أن يكون جزئيًّا، بأن يمتنع المضرب عن الطعام في أوقات محدودةٍ أو أصنافٍ معينةٍ من الطعام، بحيثُ لا يفضِي به إلى الهلكةِ،  فهذا مباحٌ، إنْ غلب على ظنه تحققُ المصلحة؛ لأنَّ غاية ما فيه امتناعُه عن مباحٍ لا يؤدي به إلى هلاك، وله أن ينويَ بهذا الامتناعِ الصومَ؛ ليحصل به الأجر، وليغيظ به الظالم، فقد نُقل عن الإمام أبي جعفر الهاشمي العالم العابد الزاهد الورع، أنه لمَّا حبس في فتنةِ ابن القشيري سردَ الصومَ، وما أكل لأحدٍ شيئًا، حتى ضجَّ الناس من حبسه فأُخرج [ينظر: سير أعلام النبلاء: 18/547].

أمَّا إن كان الإضرابُ كليًّا، ولوقتٍ طويل، يؤدي إلى تلف النفس أو تلفِ بعض أعضائه فيمنع؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصدِ، فإن المقصد الحسن لا يجوزُ أن يتوصَّلَ إليه إلا بوسائلَ مباحة، وقد حرّمَ اللهُ أن يقتلَ الإنسانُ نفسه، أو يتلفَ شيئًا منها، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ وَأَحۡسِنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ﴾ [البقرة:195]، وقال عز وجل: ﴿وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ ﴾ [النساء: 29]، قال القرافي رحمه الله: “لَوْ مَنَعَ مِنْ نَفْسِهِ طَعَامَهَا وَشَرَابَهَا حَتَّى مَاتَ؛ فَإِنَّهُ آثِمٌ قَاتِلٌ لِنَفْسِهِ” [الفروق: 4/183]، وقال الماوردي رحمه الله: ” وَلَا يُظَنُّ بِعَاقِلٍ أَنْ يَقْصِدَ قَتْلَ نَفْسِهِ ‌إِضْرَارًا ‌لِغَيْرِهِ” [الحاوي الكبير: 5/372].

ومَن أضربَ عن الطعام حتى ماتَ لا يحكم له بالشهادة، قال الجصاص رحمه الله: “منِ امْتَنَعَ مِنْ الْمُبَاحِ حَتَّى مَاتَ كَانَ قَاتِلًا نَفْسَهُ ‌مُتْلِفًا ‌لَهَا عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا يَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُمْ حُكْمُ الْعَاصِي وَالْمُطِيعِ”[أحكام القرآن: 1/155]، ولا يحكم عليه بالتخليد في النَّار، بل يرجى له العفو والمغفرة لكونِهِ متأولًا، ففي قصة الرجل الذي هاجرَ مع الطفيل بن عمرو الدوسي، ثم قتل نفسَه بقطع براجمه [عروق يديه] أنَّ الطفيلَ رآه في المنامِ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ فسأله: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟ قَالَ قِيلَ لِي: لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْت. فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “اللَّهُمَّ! وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ” [صحيح مسلم: 116]، والله أعلم.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

 

 

لجنة الفتوى بدار الإفتاء:

أحمد بن ميلاد قدور

عبد الرحمن بن حسين قدوع

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

مفتي عام ليبيا

04//ذو القعدة//1445هـ

12//05//2024م 

 

 

 

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق