طلب فتوى
البيعالفتاوىالمعاملات

حكم التسعير وزيادة السعر الفاحش في البضاعة المدعومة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

رقم الفتوى (3586)

 

ورد إلى دار الإفتاء السؤال التالي:

يوجد إشكال عند التجار في تحديد تسعيرة البيع للبضائع، فهناك من يرى إباحة البيع بأيّ تسعيرة كانت؛ لعدم وجود تسعيرة من وزارة الاقتصاد، ومنهم من يرى أنّ الدولة هي المسؤولة عن توفير احتياجات المواطن وليس التاجر، وأنّ البيع بسعر منخفضٍ هو جانبٌ عاطفي وليس شرعيًّا، ومنهم من يرى أنّ التاجر يتحصل على اعتماد واحدٍ في السنة بعد تعبٍ ومشقة، فكيف يُطلب منه أن يبيعَ بسعرٍ منخفضٍ؟

الجواب:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

فإنّه في الحالاتِ المعتادةِ وفي الظروفِ المستقرةِ لا يُسعّرُ على الناس، بل تُتركُ الأسعارُ للعرضِ والطلب، ولا يتدخلُ في معاملات الناس بفرضِ سعرٍ، أو ربحٍ محددٍ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما البيعُ عن تراضٍ) [ابن ماجه:2269]، ولِمَا جاءَ في حديث أنس رضي الله عنه؛ أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يسعرَ لهم، فقال: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ) [أبوداود:3451،والترمذي:1314]، هذا ما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما تغير الناسُ، وظهر الطمع والجشعُ، بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم، أفتى فقهاء الصحابة والتابعين بجواز التسعير.

وعليه؛ فإذا ما ظهرَ غلاءٌ فاحشٌ في الأسعارِ، بسبب جشعِ مَن بيدهم السلعُ والأموالُ، واستغلُّوا حاجاتِ الناسِ، أو حدثَ خللٌ مصطنعٌ في السوقِ، وتلاعبٌ في السكةِ المضروبةِ في البلدِ، بإخفائِها أو احتكارها، مما ينشأ عنه التضخمُ وارتفاع الأسعارِ الذي لا يطيقه الناسُ؛ فللمسؤولين على الأسواقِ، الحريصين على مصلحة المسلمينَ، تحديدُ أسعارِ السلعِ بما يحفظُ حقَّ الطرفينِ، البائعينَ والمشترينَ؛ لرفع الضرر عن العامةِ، فالضررُ يُزال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضَرَر ولا ضِرارَ) [الموطأ:2184]، وفي الموطأ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه مرَّ بحاطب ابن أبي بلتعة، وهو يبيع زبيبًا له في السوق، فقال له عمر: “إما أنْ تزيدَ في السعرِ، وإمّا أنْ ترفعَ مِن سوقِنا” [الموطأ بشرح الباجي:17/5]، وكان حاطب يبيعُ بأقلّ مما يبيعُ الناسُ، فتضررَ منه التجارُ، والضررُ بتخفيضِ السعرِ ليس كالضررِ برفعهِ، ولذلك رجع عمر رضي الله عنه عن قوله لحاطب، وأذنَ له بعدَ أن مَنَعه، يقول ابن العربي عقب حديث أنس رضي الله عنه المتقدم، في امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن التسعير: “والحقُّ التسعير، وضبطُ الأمرِ على قانونٍ لا تكونُ فيه مظلمةٌ على أحدٍ من الطائفتين، وذلك قانونٌ لا يُعرفُ إلَّا بالضبط للأوقاتِ ومقاديرِ الأحوالِ وحالِ الرجال … وما قاله النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم حقٌّ، وما فعله حكمٌ، لكن على قومٍ صحَّ ثباتهم، واستسلموا إلى ربِّهم، وأمَّا قومٌ قصدوا أكْلَ الناسِ والتضييقَ عليهم، فبابُ الله أوسعُ، وحكمه أمضى” [شرح ابن العربي لصحيح الترمذي: 54/6].

وفي حالة حصول التاجر على اعتماد من الدولة، فليس له الحرية في تحديدِ السعر كما يحلو له؛ وذلك لكونِ البضاعة مسعرةً مسبقًا من وزارة الاقتصاد، بدليلِ أنّ التاجر لا يستخرجُ البضاعة من الميناء حتى يأتيَ بتسعيرةٍ من وزارة الاقتصاد، ولأنّ الغرض من هذه الاعتمادات هو تخفيفُ المعاناةِ على الناس، وتوفيرُ السلع والحاجياتِ لهم بالسعر المخفضِ، فلا يجوز للتجار مخالفةُ الشروط التي وُضعت لهم، بدعوَى أنّ الربح قليلٌ، أو لكونِ التاجرِ يتحصل على اعتماد واحدٍ في السنةِ، بعد مشقةٍ وعناء، لأنّه قَبِلَ الاعتمادَ بالقيودِ والشروطِ الموضوعةِ له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمونَ عند شروطِهم، إلا شرطًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا) [أبوداود:3594].

أما السلع التي لم تجلب عن طريق الاعتمادات، فعلى أصحابِها أن يتقيّدوا بالنسبة المعتادةِ للربحِ بين التجارِ، فإنْ ظهر منهم الغلاءُ الفاحشُ، والطمعُ في استغلالِ حاجاتِ الناسِ؛ فللمسؤولين على الأسواقِ أن يسعِّروا عليهم، كما سعَّروا على مَن قبلَهم، وإذا دعتِ الحاجة إلى التسعيرِ، فلا يجوز للمسؤولين جبرُ التجارِ على البيعِ، ولا مصادرةُ بضائِعهم إذا لم يريدُوا البيعَ؛ لأن المصادرةَ ظلمٌ وغصبٌ، وأكلٌ لأموالِ الناسِ بالباطلِ، بل
الحكمُ في ذلك: أنّ مَن أرادَ البيعَ يُجبرُ على البيعِ بالتسعيرةِ، ومن لم يردِ البيعَ لا يجبرُ عليه، كما قال عمرُ رضي الله عنه لحاطبٍ: “إمّا أن تبيعَ كما يبيعُ الناسُ، وإمّا أن ترفعَ مِن سوقنا”، فمسألة التسعيرِ وقت الأزماتِ ليست مسألةً عاطفيةً، كما جاء في السؤالِ، بل مسألةٌ أخلاقيةٌ شرعيةٌ، لإزالة الضرر العام، بتحملِ الضرر الخاص، وقد حذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم كلَّ الأطراف – سواء المسؤولين عن السياسة الماليةِ، الذين يتحكمون في السيولةِ، واختفاءِ العملاتِ النقدية من التداول في الأسواقِ بالقدر المطلوبِ، أو مِن عامة الناسِ – حذَّرَهم صلى الله عليه وسلم مِن الاحتكارِ، وتوعَّدَهم بأشدِّ العذابِ، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحتكرُ إلّا خاطئٌ)[مسلم:1605]، وقال صلى الله عليه وسلم: (الجالبُ مرزوقٌ، والمحتكِرُ ملعونٌ) [ابن ماجه:2153،والحاكم:11/2]، ورُويَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قالَ: (مَن احتكرَ على المسلمينَ طعامًا ضربَهُ اللهُ بالجذامِ والإفلاسِ) [ابن ماجه:2155]، والله أعلم.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

 

 

                                                          

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

مفتي عام ليبيا

05/رمضان/1439هـ

21/مايو/2018م

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق