طلب فتوى
الأقضية والشهاداتالفتاوى

حكم الشروط المبرمة في مجالس فض النزاعات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

رقم الفتوى (3048)

 

ورد إلى دار الإفتاء السؤال التالي:

وقعت خصومة بين طرفين، فطالب البعض بالرجوع إلى الشرع، ويقصدون بذلك مجالسَ الصلح؛ لأن أحكام القضاء في بلادنا مخالفةٌ للشريعة عندهم، فما مدى صحة ذلك؟ علما بأن هذه المجالس قد تتألف من أناس غير متخصصين في الشريعة، فكيف تكون هي المرجع الشرعي لفضِّ المنازعات؟ وهل يحق لأحد الخصوم إلزام خصومه بالتحاكم إلى مجالس الصلح الأهلية، غير المخوَّلة من الدولة؟

الجواب:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

فإن التحكيم في الخصومات لإِظهار خطأ المخطئ، والانتصار للمعتدَى عليه، وإصلاح ذات البين، والفصل في المنازعات بالحق الذي جاءت به شريعة الإِسلام، جائزٌ بالإجماع؛ قال تعالى: (وَإنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إن يُرِيدَا إصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) [النساء:53]، وقَبِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه في يهود بني قريظة، لما اتفقوا على الرضا بحكمه؛ قال النووي رحمه الله: “فيه جواز التحكيم في أمور المسلمين وفي مَهمَّاتهم العظام، وقد أجمع العلماء عليه” [شرح مسلم:92/12].

ويشترط في الحَكَمِ أن يكون مسلمًا بالغًا عاقلًا لا فاسقًا، وأن لا يكون خصمًا لأحدِ المتنازعين، ولا جاهلًا بالحكم؛ قال الدردير رحمه الله: “(وَجَازَ) لِلْخَصْمَيْنِ (تَحْكِيمُ) رَجُلٍ (عَدْلٍ) عَدْلِ شَهَادَةٍ: بِأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، حُرًّا، بَالِغًا، عَاقِلًا، غَيْرَ فَاسِقٍ. (غَيْرِ خَصْمٍ): … وَلَا يَجُوزُ تَحْكِيمُ الْخَصْمِ، فَإِنْ وَقَعَ مَضَى إنْ حَكَمَ صَوَابًا… (وَ) غَيْرِ (جَاهِلٍ) بِأَنْ يَكُونَ غَالِبًا عَالِمًا بِمَا حَكَمَ بِهِ إذْ شَرْطُ الْحَاكِمِ أَوْ الْمُحَكَّمِ الْعِلْمُ بِمَا يَحْكُمُ بِهِ – أي: العلم بالأحكام الشرعية – وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ وَلَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ” [الشرح الصغير مع بلغة السالك:198/4].

فإذا حكَّموا جاهلًا بالحكم، ولكنه استفتى بعض أهل العلم وحكم بقولهم، فحكمُه نافذٌ؛ قَالَ اللَّخْمِيُّ رحمه الله: “إنَّمَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ إذَا كَانَ الْمُحَكَّمُ عَدْلًا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ أَوْ عَامِّيًّا وَاسْتَرْشَدَ الْعُلَمَاءَ، فَإِنْ حَكَمَ، وَلَمْ يَسْتَرْشِدْ لم يجز ورُدَّ، وَإِنْ وَافَقَ قَوْلَ قَائِلٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَخَاطُرٌ مِنْهُمَا وَغَرَرٌ” [التبصرة:5337/11].

ويشترط في التحكيم رضا جميع الخصوم به، ولا يجوز فرضه من طرف واحد، كما لا يجوز للمحكم البت في بعض القضايا التي هي من اختصاص القضاء، كإقامة الحدود ونحوها؛ قال ابن فرحون رحمه الله: “إنَّ الْخَصْمَيْنِ إذَا حَكَّمَا بَيْنَهُمَا رَجُلًا وَارْتَضَيَاهُ؛ لأَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي الْأَمْوَالِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَلَا يُقِيمُ الْمُحَكَّمُ حَدًّا، وَلَا يُلَاعِنُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَلَا يُحَكَّمُ فِي قِصَاصٍ أَوْ قَذْفٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ وَلَاءٍ، وَإِنَّمَا اُسْتُثْنِيَتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ؛ لِاسْتِلْزَامِهَا إثْبَاتَ حُكْمٍ أَوْ نَفْيَهُ مِنْ غَيْرِ الْمُتَحَاكِمَيْنِ، وَمَنْ عَدَا هَذَيْنِ الْمُتَحَاكِمَيْنِ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ هَذَا الْمُحَكَّمِ”[تبصرة الحكام:62/1].

فإذا حَكَّم الخصوم برضاهم شخصا أو مجموعة بالشروط المذكورة، فحُكْمهم لازمٌ لجميع الأطراف، ولا يجوز ردُّه، ما دام موافقًا لقولٍ معتبَرٍ شرعًا من أقوال أهل العلم؛ قال ابن الجلاب رحمه الله: “وإذا حكَّم الرجلان رجلًا فحكم بينهما، فرضي أحدهما بحكمه، وسخطَ الآخر؛ لزمه حكمه؛ إذا كان من أهل العلم، وحكم بما يجوز بين المسلمين، وسواء وافق حكم قاضي البلد أو خالفه، ما لم يخرج بحكمه عن إجماع أهل العلم” [التفريع:258/2]، وقال ابن فرحون رحمه الله: “إذَا حَكَمَ الْمُحَكَّمُ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْقُضَ حُكْمَهُ، وَإِنْ خَالَفَ مَذْهَبَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ جَوْرًا بَيِّنًا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ”[التبصرة:63/1].

ولا مانع أن يلجأ الحكَم إلى الإصلاح بين المتنازعين، بما لا يخالف الشرع المطهر، بشرط الرضا وعدم الإجبار؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الصلحُ جائزٌ بينَ المسلمينَ، إلّا صُلحًا حرَّم حلَالًا أو أحلَّ حرامًا) [الترمذي:1352،أبوداود:3594،ابن ماجه:2353].

ومما سبق يتبين أنه لا يجوز إجبار الخصم على الاحتكام إلى مجالس الصلح، خاصةً إذا لم تتوفر فيها الشروط المطلوبة، فإذا لم يتراض الخصوم ولم يصلوا إلى حل؛ فلابدَّ من اللجوء إلى القضاء لفض النزاع، ووضع الأمور في نصابها، وإعطاء كل ذي حق حقه.

والقول بأن أحكام القضاء في بلادنا خارجة عن الشرعِ، هكذا بإطلاق غير صحيح؛ لأنّ غالب القوانين التي يحكم بها القضاة مأخوذةٌ من أقوال معتبرة لفقهاء الإسلام، وما كان فيها من مخالفة قد تم تعديله أو إلغاؤه، مِن قبل لجنة مراجعة القوانين، التي شكلها المؤتمر الوطني العام بالخصوص، وقد أقر المؤتمر ما توصلت إليه، وتم تعميمه على المحاكم والقُضاة، والله أعلم.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

 

لجنة الفتوى بدار الإفتاء:

أحمد محمد الكوحة

أحمد ميلاد قدور

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

مفتي عام ليبيا

26/ذو القعدة/1437هـ

29/أغسطس/2016م

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق