حكم الصدقة على غير معينين والحبس على الإناث دون الذكور
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (5738)
ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:
جاء في وثيقة تحبيس ما نصه: “حضر لدا كاتبه الحاج ع ع ع، وسبب حضوره لدينا أنه أوصى بقطعة أرض بيضاء عارية بالجفارة الشرقية، وتعرف بسدرة عتيقة قريبة من العماريين، يحدها قبلة أرض العماريين الذين منهم م ص وغيره، وشرقا ف ع، وجوفا ص، وغربا أرض سابقا لورثة ف ع والآن بيد ع ر ص، يجعل بغلتها مائدة في أول شهر رمضان المعظم كعادة أهل البلاد، مع (زيتونة) قرقاشي النوع الأولى بخيار قريبة من الجبانة، حدودها: قبلة أرض وقف لوالده ومسقى الماجن المعد لجمع ماء المطر، وشرقا حرم مكينة ص ع، وجوفا انقلاب ماء والآن طرح وصار طريقا للسيارات، وغربا ورثة الحاج ف ع، مع سدسه في الماجن المذكور، ويحد الماجن قبلة أرض وقف الوالد، وشرقا مسقى زيتون الوقف، وجوفا القطعة المذكورة أعلاه، وغربا ف ع ومسقى الماجن، بغلتها تابعة لما ذكر أعلاه، مع زيتونتين أيضا يعرفن (يعرفن) بالمقرونات، يجعل بغلتهما لمن يحسن قراءة القرآن العظيم، وإن لم يوجد من يقرأ القرآن فللمجتمع من جماعة المسلمين الذين يذكرون الله ويسبحونه، كل ما ذكر من تحديد أعلاه بإملاء الموصي مع حجرة الدار الذي بمنزله الآن، ويفتح شرقا فهي للبنات الثلاث الذي تترمل أو تمرض أو تحتاج لسكنتها، ولا تباع ولا تورث، وإن انقطع البنات فلا لنسلهن حق في الدار المذكورة، وتبقى للأولاد وأولاد الأولاد وما العلم بذلك جعل (ع ل) الوصية أبنائه وهم: ل، وح، ود، وكلاء على الوصية المذكورة، إن قبلوا الوكالة ينفذون حسب ما نص الموصي، وقال الموصي: أنا أريد أولاد المذكورين يتبرعون على بالصدقات كقراءة القرآن وغيره، وصية صحيحة فمن بدل أو غير فالله حسبه، وبه شهد عليه بما فيه وسمع منه وعرفه بحال كمال بتاريخ (..) شعبان عام سنة 1397 موافق (23/(1977) عبده: علي أحمد السويح وفقه الله آمين، وبمثله ما ذكر أعلاه صحيح، ع ع ع، وبلعيد علي الجهيمي القماطي. في الهامش عبارة بقلم الحبر الجاف: والتصليح في الكلام لا يضر، صح من يد موقعه ع ع ع”.
وقد انقطع الانتفاع بالقطعة الأولى؛ لعدم وجود طريق يوصل إليها، فلم يعد بها أشجار، فما حكم بيع القطعة الأولى، واستبدالها بقطعة أرض أخرى، لها طريق يوصل إليها؟ وقد استولت الدولة على القطعة الثانية، وأقامت عليها بناءً، فرفعنا الأمر إلى القضاء، وحكمت المحكمة بإرجاع الملكية، فما حكم بيعها بعد استردادها؟ وما حكم البناء في أرض حبس والد ع ع، المشارِ إليها عند ذكر الحدود؟ وهي محبسة -حسب شهادة الشهود الموثقة في محرر العقود- لحفظة القرآن الكريم، علما أن ع ع كان يعمل في الأرض إلى أن توفي، فاستلمها ابنه د، وعمل فيها أربعين سنة أو أكثر، إلى أن مرض وفقد عقله سنة 2019م، وكان يصرف على العناية بزيتونها وجنيه من ماله، ثم يأخذ ثلثي غلتها، ويخرِج الثلث لمصرف الحبس، وقد أذن لابنه بالبناء على الأرض سنة 2014م، ولا يوجد لدينا حجة للحبس، إلا قول ع ع: إن والده أوصاه أن يستغلها ويبني فيها، شفهيا.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإن الصدقة إذا كانت على غير معينينَ، أو لم يُرد بها تمليك رقبتها، تعدّ وقفًا، نقل عليش رحمه الله عن ابن عرفة رحمه الله قوله: “[قال] البَاجِي: لَفْظُ الصَّدَقَةِ إِنْ أَرَادَ بِهِ تَمْلِيكَ الرَّقَبَةِ فَهِيَ هِبَةٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ مَعْنَى الْحُبُسِ فَهُوَ كَلَفْظِهِ. قُلْتُ بَقِيَ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يُرَدْ بِهِ أَحَدُهُمَا اهـ. قُلْتُ [أي: عليش]: تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ ابْنِ شَاسٍ أَنَّها مَحْمُولَةٌ عَلَى الْحُبُسِ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهَا هِبَةَ الرَّقَبَةِ” [منح الجليل: 8/135]، والأصلُ أن لا يُتَصرَّفَ في الوقف، بأيٍّ مِن أوجه التصرفِ التي تُذهِب عينه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه في صدقته: (أَمْسِكْ أَصْلَهَا، وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ)، وقول عمر رضي الله عنه بعد ذلك: “لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ” [النسائي:6432]، إلَّا إنْ عُدمَ الانتفاعُ بها على الوجهِ الذي حددَه الواقفُ، وخِيفَ عليها الضياع، فإنها تناقلُ بغيرها، وقد سئلَ ابنُ رشد رحمه الله عن حكم معاوضة أرض غامرةٍ تابعة لمسجد، فأجاب: “إِنْ كَانَتِ القِطعَةُ مِنَ الأرضِ المحبّسةِ قدِ انقطَعَت مَنفَعتُها جملَةً، وَعجزَ عَن عِمارَتِها، فَلا بَأسَ بِالمعاوضَةِ فيها بمكانٍ يكونُ حبُسًا مَكانَها، ويكونُ ذلكَ بِحكمٍ مِن القاضِي بعدَ ثبوتِ ذلكَ السّببِ، والغبطةِ في العِوضِ ويسُجل ذلك ويُشهد به” [المعيار المعرب: 138/7].
والحبس على الإناث دون الذكور صحيح، قال الخرشي رحمه الله: “يبطل الوقف إذا وقفه على بنيه الذكور دون الإناث فلو وقفه على بناته دون بنيه يصح” [شرح الخرشي على مختصر خليل: 7/ 82]، ولا يضرّه تقييد المحبّس إعطاءَ البنات من غلة الوقفِ، بألَّا يكون لها زوجٌ أو مال؛ قال الدسوقي رحمه الله: “لَوْ شَرَطَ أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَتْ مِنْ الْبَنَاتِ فَلَا حَقَّ لَهَا إلَّا أَنْ تَتَأَيَّمَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ لَهَا الْحَقُّ فِيهِ كَانَ الْوَقْفُ صَحِيحًا كَمَا قَرَّرَهُ شَيْخُنَا الْعَدَوِيُّ” [الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي: 4/ 79]، وبعد موت البنات تصير حبسًا على أولاده وأولاد أولاده ذكورا وإناثا.
عليه؛ فإن قطعتي الأرض المذكورتين في الوثيقة تعدَّان وقفًا، وإذا تحققتم من عدم الانتفاعِ بالقطعة الأولى في الغرضِ الذي من أجله حبست، وهو التصدق بغلتها على قراء القرآن الكريم، فيجوز للناظر على الوقف مناقلتها؛ إمّا باستبدالِها، أو بيعِها، ويُشتَرى بثمنها أرضٌ يمكن الانتفاع بها؛ حفاظًا على الوقفِ من الضياع ما أمكن، ولا يجوز بيع القطعة الثانية بعد الحكم برد ملكيتها.
ونظرا لأن السائل ذكر أن هناك شهادة سماع شائعة بين الناس أن أرض (ع ع ع) كلها حبس على طلبة القرآن، فإن حبسيتها تستمر على ما هي عليه بمقتضى شهادة السماع، ويصرف ريعها على تحفيظ القرآن وطلبته، وللقائمين على نظارتها بها من ورثة ع ع أجرة مثلهم نظير إحياء الأرض واستثمارها لصالح الوقف.
وعليه؛ فالبناء الذي أقيم على الأرض من التعدي على الوقف، وللناظر أن يتصرف فيه حسب مصلحة الوقف، فإن كان في بقائه منفعة للوقفِ، أُعطي الباني قيمةَ البناء منقوضًا، ويبقى البناء وقفا، وإن لم يكن في بقاء المبنى مصلحةٌ، وخالفَ شرطَ الواقف، فليس للباني إلا إخلاءُ الأرض الموقوفة، وإزالةُ بنائه، قال سحنون رحمه الله: “مَن اشترى قاعة فبناها، ثم ثبتَ أنها حبس، فإنه بخلاف مَن بنى بشبهة، هذا يقلعُ نقضه؛ إذ ليس ثمّ مَن يعطيه قيمة بنائه”[التاج والأكليل:351/7]، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
أحمد بن ميلاد قدور
حسن بن سالم الشريف
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
14//صفر//1446هـ
18//08//2024م