طلب فتوى
الفتاوىقضايا معاصرة

حكم المشاركة في الانتخابات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

رقم الفتوى (3428)

 

ورد إلى دار الإفتاء السؤال التالي:

طلبتْ مفوضية الانتخابات منا التسجيل لإعداد قوائم المشاركة في الانتخابات، فما حكم المشاركة فيها في الوقت الحاضر؟

الجواب:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

فإنّ الشريعة الإسلامية أمرت بالشورى في تنصيب الحكام، فقال تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ) [الشورى:38]، ولم تُلزمِ الناسَ بشكلٍ معيّن في طريقِ اختيارِ الحاكم، بدليلِ تعددِ الطرقِ في تنصيبِ الخلفاءِ الراشدينَ، فالصديقُ رضيَ الله عنه تمتِ الشورَى عليه في مجلسٍ، اجتمعَ فيه كبارُ المهاجرينَ والأنصار يوم السقيفة، وعمر عهد بها إليه أبوبكر رضي الله عنهما، وتركها عمر شورى في الستة، الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ.

والانتخابات هي شكل من أشكال اختيار الحاكم في العصر الحديث، فينبغي على أهل الدين والفضل، والمتطلعين إلى إقامة العدل وتحكيم الشريعة ونصرة الحق، ألَّا يتخلفوا عن المشاركة فيها؛ لأنهم إن تخلفوا أفسحوا الطريق لأهل الأهواء، ومكَّنوا لأهل الفسادِ مِن رقابِ الناسِ، فتسلَّطوا على حكم البلد بالظلم والقهر، وبما يؤدّي إلى الهرج والظلم وسفكِ الدماء، وإبعادُ أهلِ الفسادِ وعدم التمكينِ لهم واجبٌ، ولا يتم ذلك إلّا بالمشاركة على نطاق واسعٍ، مِن أهلِ الخير والصلاحِ.

فمشاركتُهم وسيلةٌ إلى واجبٍ شرعي، مِن المقاصدِ الكليةِ في الدين، وهو رفع الظلم، وإقامة العدل، وتكثير سوادِ أهلِ الحق، ومعلومٌ أنه ما لا يتم الواجب إلا بهِ فهو واجبٌ.

وقد جاء في السنة وكذلك في تاريخ المسلمين مِن النظائر والشواهدِ، مما عملَ به الخلفاءُ، وأقرّه العلماء، ما يصلحُ أصلًا لمشروعيةِ الانتخابات، منها ما جاء في البخاري: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم طلبَ مِن أصحابه أن يردُّوا إلى هَوازِن سبيَهم، فتكلّموا جميعًا، ولم يتبينْ له أمرُ رِضاهم مِن عدمهِ، فقال لهم: (إِنِّي لَا أَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ، فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، فَرَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ النَّاسَ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا) [البخاري:6755]، فالعرفاء في هذه النازلةِ مَثّلوا باقيَ الجيش، وتكلّموا بالنيابةِ عنهُ.

وفي كتاب ابنِ هبيرة لمسلم بن سعيدِ، والِيهِ على خُراسان، في شأنِ اختيار العمَّال الذين اصطُلحَ عليهم آنذاكَ بعمَّال العُذر، قال له: (مُرْ أهلَ كلِّ بلدٍ أنْ يختارُوا لأنفسهم …).

وكذلك صنيعُ عبدالرحمن بن عوف، يومَ وَلِيَ عثمانُ رضي الله عنهما الخلافةَ، فأخذَ يستشيرُ الناس، ويجمعُ رأي المسلمين برأي رؤوسِ الناسِ وأقيادهم، جميعًا وأشتاتًا، مثنَى وفُرادى ومجتمعين، سرًّا وجهرًا، حتى خَلُص إلى النساءِ المخدراتِ في حجابهن، وحتّى سألَ الوِلدانَ في المكاتب، وحتى سألَ مِن الركبانِ والأعرابِ إلى المدينةِ، في مدة ثلاثةِ أيام بلياليها، فلم يجدِ اثنين يختلفانِ في تقديم عثمان بن عفان.

والكلام بالنيابة عن الغير هو ما تقومُ به المجالس المنتخَبةُ في أيامنا، ولا محذورَ في ذلك، فإنهم إذا كانوا صالحينَ وحسُن اختيارُهم، فلا يقومون بأمرٍ يضر بالناسِ، أو يخالفُ شرعَ الله، فالخوف مِن إقرارهم القوانين والأوامر المخالفة للشريعةِ يكونُ عند سوءِ الاختيارِ.

لذا؛ فإنّ جمهورَ علماء أهل العصرِ يقولونَ بجواز المشاركةِ في الانتخاباتِ، وأنّها مِن الوسائل المباحة، بل قد تتعينُ أحيانًا؛ لمنعِ المفاسدِ ودفعِ الضررِ عن الدين.

إذ مَبنى الحكم في ذلك هو المفسدةُ والمصلحة، وقد ثبت واقعًا بما لا يدعُ مجالا للشك، أنّ تركَ المشاركة في الانتخاباتِ مِن أهل الخير والصلاح، ينتجُ عنه غلبةُ الفسَّاق وأهلِ الفساد، ويقلُّ معه سوادُ الصالحين مِن ذَوي الأهلية، وهذا مِن الفسادِ الذي نهى عنه الله جل وعلا، قال تعالى: (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص:77]، والله أعلم.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

مفتي عام ليبيا

23/ربيع الأول/1439هـ

11/ديسمبر/2017م

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق