بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (2780)
ورد إلى دار الإفتاء السؤال التالي:
تزوجتُ امرأة، ولي منها ابنان وأربع بنات، تعرضتْ زوجتي لمشاكل صحية، فانقطعَت عن الإنجاب، وزاد بها المرض، وصرفتُ عليها أموالًا كثيرة للعلاج، وإلى الآن هي تعاني من مشاكل صحية ـ شفاها الله ـ، أخذتُ منها ومن أبنائي الإذن بالزواج من امرأة أخرى؛ فوافقوا جميعا، فتزوجتُ، ورغبتْ زوجتي الأولى في الإقامة مع ابنها فسمحتُ لها، وجعلت لها مبلغا قدرهُ ستون دينارًا شهريا؛ كنفقة عليها، وقسمت ممتلكاتي على أبنائي وبناتي، فأخذ كل ابن مائة وأربعة عشر ألفَ دينار، وكل بنت أخذت سبعة وخمسين ألفا ومائتين وخمسين دينارًا، وأخذت زوجتي الأولى خمسة وثلاثين ألف دينار، ووزعتها على أبنائها هي أيضًا؛ للذكر مثل حظ الأنثيين، واشتدَّ المرض على زوجتي وأقامت عندي، والآن وقد ضاق بي الحال مِن الناحية المادية والجسمية، حيث وزعت ممتلكاتي على أبنائي، ولي دخل محدود (مرتب ضماني)، عرضتُ على أبنائي النفقة على أمهم وعلاجها والاهتمام بها؛ فامتنعوا ورفضوا، وتعلَّلوا بأني أنا الزوج، والنفقة والعلاج والرعايةُ واجبة عليَّ، وأنا عمري قد تجاوز السبعين، فهل يحق لي المطالبة بأموالي التي وزعتُها، وهل مِن كلمة أو نصيحةٍ لأبنائي الذين خذلوني في كبري؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإن الله تعالى أوجب بر الوالدين، واحترامهما، وتوقيرهما، وخفض الجناح لهما، ومعاملتهما ومخاطبتهما بما يقتضي ذلك، والعناية بهما وخدمتهما، خصوصًا عند الكبر والشيخوخة، وحرم تحريمًا غليظًا كل ما يقتضي خلاف ذلك؛ قال الله تعالى: )وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا( [النساء:36]، وقال: )وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا( [الإسراء:23-24].
وقد وردت نصوص كثيرة في الحث على بر الوالدين عموما، والأم بصفة خاصة، وفي التحذيرِ من عقوقِهما، من ذلك ما في الصحيحين عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: (أُمُّكَ) قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أُمُّكَ) قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أُمُّكَ) قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أَبُوكَ) [البخاري:5524].
كما وردتْ أحاديث كثيرة ترهبُ مِن عقوق الوالدين وعاقبة ذلك، روى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رَغِم أنف، ثمّ رغم أنف، ثم رغمَ أنف)، قيل: مَن يا رسول الله؟ قال: (مَن أدرك أبويهِ عند الكبرِ؛ أحدهما أو كليهما، فلم يدخلِ الجنة) [مسلم:2551]، وعن جابر رضي الله عنهما أن رجلًا قال: يا رسولَ اللهِ إنّ لي مالًا وولدًا، وإنّ أبي يريدُ أن يجتاح مالي، فقال: (أنتَ ومالُك لأبيكَ) [ابن ماجه:2379].
عليه؛ فيجب على الأبناء العناية بأمهم عند إعسارِ الأب، بل هذا مِن تمام البر، ومن أجَلِّ الطاعات، ويجب عليهم عدمُ التنصلِ من هذا الواجب، وتنصلهم من ذلك يعد من العقوق الذي يدخل النار، وللوالدين حق الرجوع في عطيتهما لأبنائهما إنْ أرادَا ذلك، إن كانت الهبة لا تزال قائمة، وهذا ما يُسمى بالاعتصار، وهو استرداد الواهبِ هبته من الموهوبِ له، جبرًا مِن غيرِ عوضٍ، وهو خاص بالوالدين تجاهَ أبنائهما، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
محمد علي عبدالقادر
الصادق بن عبدالرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
14/ربيع الآخر/1437هـ
24/يناير/2016م