سداد الدين مقدم على قسمة التركة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (4883)
ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:
توفي رجل عن زوجة، وأولاد من غيرها، وعليه دَيْنٌ لأمّ الأولاد المطلقة، من ذهب مصوغ معلوم وزنًا ونوعًا، وشهد على ذلك أغلب أفراد العائلة، من أبناء المتوفى وإخوته، أمام محرر عقود، ولدينا على هذا استفسارات:
أولا: هل تصرُّفُ المتوفى بذهب زوجته المصوغ – الذي أخذه على سبيل الاقتراض- بالبيع، مع تعهده بإرجاعه كاملا، يعدّ دَينا في ذمته، وعليه رده والوفاء به من تركته؟
ثانيا: هل تقبل شهادة الشهود وهم على هذه الدرجة من القرابة في إثبات الدَّيْنِ وعدم سداده، وهل يلزم الورثةَ السدادُ وإن كان أحدُهم معترضًا على هذا الدين، لعدم علمه أو اقتناعه بهذا الدين؟
ثالثا: هل يُرَدُّ الدَّيْنُ بشراء مثل الذهب المصوغ وزنًا ونوعًا في الوقت الحالي، أو نقدًا بما يعادل قيمته في السوق؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإنَّ أَخْذَ الزوجِ الذهبَ من زوجته، وتعهدَه بإرجاعه كاملا -إذا ثبت- هو قرضٌ للزوج ودينٌ عليه، لا يسقط إلا بسداده، أو إسقاطه من قبل امرأته المطلقة، وما لم يحصل واحدٌ منهما فهو باقٍ في ذمته، يلزمه الوفاء به في حياته، ومتى توفي فإنه يلزم الورثةَ سدادُهُ من تركته قبل قسمتها، قال سبحانه وتعالى بعد أن بَيَّنَ قسمة الفرائض بين الورثة: (مِن بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصِي بِهَا أَوۡ دَيۡنٍ) [النساء: 11]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ) [الترمذي: 1076]، ويشترط في الشاهد أن يكون عدلا، وألا يكون قريبًا لطالب الحق قرابة مؤكدة، كقرابة الولد لوالِده، فإن شهادته لصالحه مردودةٌ، ولا تجوز شهادة الأخ لأخيه إلا إن كان الأخ الشاهد مشهورًا بالعدالة مبرَّزا فيها، قال الدردير رحمه الله: “… فَلَا شَهَادَةَ لِمُغَفَّلٍ إِلَّا فِيمَا لَا يَلْبِسُ وَلَا لِمُتَأَكِّدِ الْقُرْبِ كَوَالِدٍ وَإِنْ عَلَا كَالْجَدِّ وَأَبِيهِ، وَوَلَدٍ وَإِنْ سَفُلَ، وَزَوْجِهِمَا، بِخِلَافِ أَخٍ أَوْ مَوْلًى، وَمُلَاطِفٍ إِنْ بَرَّزَ” [أقرب المسالك: 4/243-244]، هذا في شهادة القريب لصالح قريبه؛ لأنه مظنة المحاباة والميل الفطري له، أما شهادته عليه لصالح غيره فهي أحرى بالقَبول مِن شهادة غيره، لعدم التهمة، فشهادة الولد على والده، وشهادة الوالد على ولده، وشهادة الأخ على أخيه جائزة؛ إذ المحاباة تقتضي منه عدم الشهادة على قريبه لصالح غيره، فمتى فعل؛ انتفت هذه التهمة، قال القاضي عبد الوهاب رحمه الله: “وَكُلُّ مَنْ مُنِعَ الشَّهَادَةُ لَهُ فَشَهَادَتُهُ عَلَيْهِ جَائِزَةٌ مَقْبُولَةٌ، وَكُلُّ مَنْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ [كشهادة العدو على عدوه] فَشَهَادَتُهُ لَهُ مَقْبُولَةٌ …؛ لِأَنَّ التُّهْمَةَ تُوجَدُ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ وَتَنْتَفِي مِنَ الْآَخَرِ، فَحَيْثُ تُوجَدُ مَنَعْنَاهَا، وَحَيْثُ تَنْتَفِي نُجِيزُهَا؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْعِلَّةُ الْمُؤَثِّرَةُ” [المعونة: 1533]، كما يشترط ألا تكون بين الشهود وبين المعترض على ثبوت الدّين على الميّت عداوةٌ لأمرٍ دُنيوي، يُخْشَى بسببها حيفُ الشاهد وكذبُهُ، قال الدردير رحمه الله: “وَلَا شَهَادَةَ لِعَدُوٍّ عَلَى عَدُوِّهِ فِي أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ … وَلَوْ كَانَتْ مِنْ مُسْلِمٍ عَلَى كَافِرٍ” [الشرح الصغير: 4/246].
والأصلُ أن يُرَدَّ الدَّيْنُ بعَيْنِهِ أو بِمِثْلِهِ، فمن اقترضَ ذهبًا وجب عليه أن يردَّ الذهب نفسه، أو مثلَه في الوزن والعيار والصفة، قال الدردير رحمه الله: “وَرَدَّ المُقْتَرِضُ عَلَى المُقْرِضِ مِثْلَهُ قَدْراً وَصِفَةً، أَوْ رَدَّ عَيْنَهُ إِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ فِي ذَاتِهِ عِنْدَهُ” [الشرح الصغير: 3/296[، فإن رضي الطرفان بقضاء قيمته من النقود فهو صرفٌ، يشترط فيه حلولُ أجلِ الدَّيْنِ، وتحديدُ السعر الذي يتفقان عليه، وسدادُه في مجلس الاتفاق نفسه قبل أن يفترقَا؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: (الذَّهبُ بِالذَّهَبِ، وَالفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، …) إلى أن قال: (فَإِذَا اخْتَلَفَتِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَداً بِيَدٍ) ]مسلم: 1587[، فإن لم يتراضيَا على قضائه من النقود؛ وجب ردُّ مثلِ الذهب المقترَض.
عليه؛ فإن كان الحال كما ذكر في السؤال، فإنه يثبت الدَّيْنُ على المتوفى لطليقته بشهادة إخوته، إذا توفرتْ فيهم شروط الشهادة كما سبق، ولم يكن بينهم وبين زوجته الأخرى وأبنائه عداوةٌ تقدح في شهادتهم، ويجب على الورثة سدادُ هذا الدَّيْنِ من تركة المتوفى قبل قسمتها، بردِّ مثل الذهب -الذي أخذه من طليقته – في الوزن والعيار والصفة، أو بقضاء قيمته من النقود إذا رضيت به، بشرط تحديد السعر وسداده في مجلس الاتفاق نفسه، وإذا ثبت الدّين فلا اعتداد بإنكار أحد الورثة وعدم اعترافه به، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
أحمد بن ميلاد قدور
حسن بن سالم الشريف
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
22// ذي القعدة//1443 هـ
22//06//2022م