بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (4753)
ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:
ترك والدنا مبنًى مكونًا من طابقين، الطابق الأرضي مقسم إلى محلين ومنزل كان يسكنه مع زوجته، والطابق العلوي مقسم إلى شقتين، بناهما لابنيه، يقيمان فيهما، وتنسبان لهما، وترك أيضًا بيتًا قديمًا تسكنه إحدى البنات، وترك أرضًا فضاءً بين المبنى والمنزل القديم، وفي سنة 2016م حرر والدنا وثائق عند محرر للعقود، قسَّم فيها ما يملكه من عقار على ورثته، فتنازل لزوجته عن المنزل الذي يسكن فيه معها، ولبناته عن المنزل القديم، ولابنه الأكبر عن الشقة التي يسكنها ومحل تحتها، ولابنه الأصغر عن الشقة التي يسكنها ومحل تحتها، وأودع الوثائق عند صديق له، وطلب منه ألا يخرجها إلا بعد وفاته، ففعل ذلك بعد وفاته سنة 2020م، ولم يكن لنا علم بالوثائق قبل ذلك، فهل ما قام به والدنا من تنازلات صحيح لازم، أو غير صحيح؛ فيلزم منه إعادة تقسيم التركة قسمة ميراث؟ علما أن الورثة كلهم مقرُّون بما ورد في السؤال من تفاصيل، وأن الابن الأكبر يدَّعي أن الأب تنازل له شفويا عن المحل الذي تحت شقة أخيه سنة 2019م، بدليل أنه يقبض الإيجارات منذ ذلك الوقت.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فالتنازل من قبيل الهبة التي يُشترط الحوز لتمامها، وبيت السكنى الذي وهبه الأب للزوجة لا تتأتى فيه الحيازة إلّا بخروج الواهب منه وإخلائه من شواغله، فتنازل والدكم لزوجته عن منزل سكناه غير صحيح؛ لبقائه ساكنًا فيه إلى أن ماتَ، ولا تتأتى للزوجة حيازةٌ بذلك، قال الدردير رحمه الله: “(وَ) صَحَّتْ (هِبَةُ زَوْجَةٍ دَارَ سُكْنَاهَا لِزَوْجِهَا) (لَا الْعَكْسُ) وَهُوَ هِبَةُ الزَّوْجِ دَارَ سُكْنَاهُ لِزَوْجَتِهِ فَلَا يَصِحُّ لِعَدَمِ الْحَوْزِ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى لِلرَّجُلِ لَا لِلْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا تَبَعٌ لَهُ” [الشرح الكبير: 4/106].
وتنازل الأب لبناته عن المنزل القديم غير صحيح أيضًا؛ لعدم علمهم بالهبة إلا بعد وفاته، وإقامة إحدى البنات فيه كان لمجرد الانتفاع والإرفاق بالسكنى، وذلك لا يفيد الحوزَ للتملك، وكذا تنازله لابنيه عن المحلين المذكورين في الوثيقة يُعدُّ هبة باطلة؛ لعدم حوز كل منهما ما كتب له في وثيقة التنازل، لانتفاء علمهما بالهبة، والحوز لا يتم إلا بالعلم، قال ابن رشد رحمه الله: “فَتَحْصِيلُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا وُهَبَ شَيْئًا هُوَ ِفِي يَدِهِ أَوْ َدَيْنًا هُوَ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَلِمَ فِي حَيَاةِ الْوَاهِبِ وَقَبِلَ، جَازَتْ لَهُ الْهِبَةُ بِاتِّفَاقٍ… وَإِن لَمْ يَعْلَمْ بِالْهِبَةِ حَتَّى مَاتَ الْوَاهِبُ، بَطَلَتِ الْهِبَةُ بِاتِّفَاقٍ، لِافْتِقَارِ الْهِبَاتِ إِلَى الْقَبُولِ، إِلَّا عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ الشَّاذَّةِ” [البيان والتحصيل: 13/410].
وأما ما يدعيه الابن الأكبر من تنازل أبيه له عن المحل الذي تحت شقة أخيه، فإذا شهدت له البينة بإثبات الهبة، صحت له، ويكون قبضه لإيجارات المحل في حياة أبيه حوزًا له، أما إذا لم تثبت الهبة إلا بمجرّد دعواه فإنها لا تصح ولو كان يقبض الإيجار؛ لأن قبض الإيجار بمجرده لا يلزم منه أن يكون المحل ملكا له، ويحمل على أن والده كان يعينه به على وجه المعروف.
وأما بناء الأب الشقتين لابنيه، ونسبتهما للابنين، ثم تنازله لهما عن ذلك؛ فيعدُّ هبة صحيحة؛ لظهور قصد الأب تمليك الشقتين لابنيه، قال المواق رحمه الله: “وَأَمَّا قَوْلُ الرَّجُلِ فِي شَيْءٍ يُعْرَفُ لَهُ هَذَا كَرْمُ وَلَدِي أَوْ دَابَّةُ وَلَدِي، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَلَا يَسْتَحِقُّ الِابْنُ مِنْهُ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا إلَّا بِالْإِشْهَادِ بِصَدَقَةٍ أَوْ عَطِيَّةٍ أَوْ بَيْعٍ” [التاج والإكليل: 8/11]، فيختص الابنان بالشقتين، ولا تدخلان في التركة، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
عصام بن علي الخمري
عبد الدائم بن سليم الشوماني
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
25//جمادى الأولى//1443هـ
30//12//2021م