عدة زوجة المفقود في جبهات الثورة، وتقسيم تركته
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (931)
السيد / مفتي فرع الإفتاء بأوباري:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تحية طيبة وبعد:
فبالإشارة لمراسلتكم ذات الرقم الإشاري (24) بشأن السؤال التالي:
ما حكم الزوجة التي فُقد زوجها في الأحداث السابقة، ولم يعثر عليه بعد البحث عنه في السجون والمستشفيات والمقابر، وشهد أحدهم أنه رآه مقتولاً، إلا أنه غير متأكد فتزوجت بغيره؟ وما هو حكم تركته، وكيف تقسم؟.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإذا شهد الشهود بأن المفقود حضر المعارك، وفقد من حينها، فعدة المرأة تبدأ من يوم أن شهدت البينة بانفصال الصفين، قال خليل بن إسحاق: “وَاعْتَدَّتْ فِي مَفْقُودِ الْمُعْتَرَكِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ انْفِصَالِ الصَّفَّيْنِ” [مختصر خليل: 158/1]، أما إذا شهدت البينة بأنه خرج مع المقاتلين، ولم يشارك في القتال، فحكمه كمن فقد في بلاد المسلمين من غير حرب، قال الخرشي: “أَمَّا لَوْ شَهِدَت الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ الْجَيْشِ فَقَطْ فَتَكُونُ زَوْجَتُهُ كَالْمَفْقُودِ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ”[شرح الخرشي: 148/4]، وهو أن يضرب له أجلٌ مدة أربع سنين؛ لما رواه مالك بن أنس عن يحيَى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب قال: “أَيُّمَا امْرَأَةٍ فَقَدَتْ زَوْجَهَا فَلَمْ تَدْرِ أَيْنَ هُوَ؟ فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ تَعْتَدُّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، ثُمَّ تَحِلُّ”[الاستذكار: 380/5].
وهذا الذي يُضْرب له الأجل لا بد من حكم من القضاء بموته، وضَرْب الأجل له يكون من القاضي، أو لجماعة المسلمين إذا لم يوجد القاضي، قال خليل في المختصر: “وَلِزَوْجَةِ الْمَفْقُودِ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ الرَّفْعُ لِلْقَاضِي وَالْوَلِيِّ وَوَالِي الْمَاءِ إنْ وُجِدَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي بَلَدِهَا وَإِلَّا يُوجَدُ فَلِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ صَالِحِي بَلَدِهَا”[الشرح الكبير للدردير: 482/2]، قال المواق: “وَالْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْكَشْفَ عَنْ خَبَرِهِ إنَّمَا هُوَ لِسُلْطَانِ بَلَدِهِ” [التاج والأكليل: 155/4].
والمعتبر في ضرب الأجل من يوم رفع أمرها للحاكم ولو مرت سنين على اختفائه؛ لأن القضاء بموته قضاء حكمي؛ لخفاء حاله واحتمال حياته، فاحتيج للحاكم لفسخ عقده واثبات موته، ففي المدونة الكبرى سئل مالك عن زوجة المفقود تعتد بغير حكم، فأجاب: “وإن أقامت عشرين سنة، ثم رفعت أمرها إلى السلطان نظر فيها وكتب إلى موضعه الذي خرج إليه، فإن يئس منه، ضرب لها من تلك الساعة أربع سنين”[المدونة الكبرى:450/5].
ومال المفقود يبقى موقوفاً مدة التعمير، وهي سبعون سنة على المشهور، قال ابن رشد: “وأما ماله [أي: المفقود] فموقوف لا يورث عنه حتى يتحقق موته، أو يأتي عليه من الزمان ما لا يحيا إلى مثله، واختلف في حد ذلك، فروي عن ابن القاسم سبعون سنة، وقاله مالك وإليه ذهب عبد الوهاب، واحتج له بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين»؛ إذ لا معنى لقوله إلا الإخبار بما يتعلق به الحكم…” [المقدمات والممهدات: 531/1]. وذلك يكون بحكم من القضاء.
فإذا علم أن هذا الزوج خرج ولم يشهد القتال، وتزوجت امرأته، قبل رفع أمرها للقضاء، تُعَدُّ تزوجت وهي ذات زوج، وعقدها باطل، والواجب التفريق بينهما، وتحد إن لم تكن له شبهة مثل: نعيه إليها ففي المعيار المعرب قال ابن يونس أثناء الكلام عن المفقود:” إن امرأة المفقود إذا تزوجت في الأجل أو قبل ضربه فليفرق بينهما، وتحد إن لم تعذر بجهل كالمنعي لها زوجها…”[المعيار المعرب: 498/2]، ولا حد علي المرأة المنعي لها زوجها للشبهة وشهادة من شهد بموت زوجها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “ادرؤا الحدود بالشبهات”[الترمذي: 1424]، قال الإمام اللخمي: “وإذا تزوجت امرأة وهي في عصمة آخر حُدّت، فتجلد إن لم يدخل بها الأول، وترجم إن دخل بها، وإن نعي لها زوجها فتزوجت ولم يثبت موته لم تحد؛ لأن ذلك شبهة والنساء يجهلن ذلك”[التبصرة للخمي: 6284/11]، وواقعة السؤال إن كانت من هذا القبيل فالواجب رفع الأمر للقضاء؛ لضرب الأجل لها، وللنظر في المأذون الذي زوجها دون التأكد من موت الزوج بالوثائق الرسمية، ومحاسبته، وإيقاع أشد العقوبات عليه؛ حماية لأعراض المسلمين، وحفظاً لأنسابهم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
11/ربيع الآخر/1434هـ
2013/2/21