بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (4728)
ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:
ما حكم ما تقوم به مكاتبُ المحاسبةِ القانونية الخاصةُ، المعتمدةُ مِن الجهاتِ الحكومية، مِن التصديقِ على قوائمَ ماليةٍ غيرِ واقعيةٍ، وإعدادِ تقاريرَ بذلكَ لأصحابِ المشروعاتِ الفرديةِ والشركاتِ الخاصة؛ تهربًا من دفعِ الضرائبِ -المفروضة على الدخل غالبًا- عند التصديقِ على الميزانيةِ العمومية الختامية؟ علمًا أنّ المحاسبَ يؤدي القسمَ القانوني للحصولِ على الترخيصِ المهني.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فالضرائبُ نوعان؛ ضرائبُ خدميةٌ، وضرائبُ تؤخذُ من أموال الناس دونَ مقابل، فإذا كانت الضرائبُ خدميةً، تؤخذُ نظيرَ خدمةٍ تقدمُ للناس، كالضرائبِ التي تؤخذُ على الجمارك، وخدماتِ الموانئ، والمرورِ في الطرقاتِ، أو نظيرَ منحِ التراخيص لممارسة الأعمال، ومراقبةِ الأسواق، وقيادةِ السيارات، ونحو ذلك، فهذه لا حرجَ فيها؛ لأنّ الناس محتاجون إلى هذه الخدماتِ في تنظيمِ حياتهم وتنميةِ أموالهم، وتعودُ عليهم بمنافع خاصة، فالمالُ الذي يؤخذُ منهم في هذه الضرائب، هو أجرةٌ على تقديم هذه المنافع، لكن يجبُ أن تقوم السلطاتُ من جانبها بتقديم الخدماتِ المطلوبة، التي تضمنتها لوائحها، مقابلَ جباية هذا المال، فلو كانت الضريبةُ مثلا تؤخذُ على المرور، فيجبُ على السلطات أن تقومَ بالخدمات التي نظَّمها قانونُ المرور، بما يوفر سلامةَ السير على الطرقات، لا أنْ تجبي الإدارةُ الضرائب، ولا تؤدّي ما عليها مِن خدمات، كتعبيدِ الطرقِ مثلا، ووضعِ العلامات، وتنظيمِ السير، ونحو ذلك.
أما النوع الثاني من الضرائب، وهو ما يؤخذُ من غير مقابل، أو ما يُعرف بضريبة الدخل، فإنّ استقطاعه جبرًا في الأحوال الاعتياديةِ محرمٌ؛ لأنه مِن المكوس، ومِن أكل أموالِ الناس بالباطل، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) [النساء: 29]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحلُّ مالُ امرئٍ مسلمٍ إلا بطيبِ نفسٍ منه) [البيهقي: 11545]، وقال عياض رحمه الله: “وَقَوْلُهُ: “لَقَد تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا َصَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ”: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَظِيمِ ذَنْبِ صَاحِبِ الْمَكْسِ، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ تِبَاعَاتِ النَّاسِ عَلَيْهِ وَظُلَامَتِهِمْ قِبَلَهُ، وَأَخْذِهِ أَمْوَالَهِمْ بِغَيْرِ حَقِّهَا، وَسَنِّ سُنَّة سَيِّئَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ اسْتِمْرَارَ الْحُقُوقِ” [إكمال المعلم بفوائد مسلم: 5/522].
ولا تحلّ هذه الضرائبُ إلا عند الضرورةِ، التي يمكن تحديدُها بالشروط الآتية:
- أن تكون حاجةُ السلطات للضريبة حاجةً حقيقيةً وضرورية، لا وهميةً أو ظنيةً، بحيث لا يكون للسلطات موارد أخرى، تستطيع أن تسيّر بها أعمالها.
- أن يكون فرضُ الضريبة استثنائيًّا مؤقتًا، حسبما تدعو إليه الضرورة، وأن يكون بقدر الحاجة، على أن ينتهي بانتهاء الحاجة؛ فإن الضرورة الشرعية “تُقدّرُ بقدرِها”.
- أن يتم إنفاقُ المال على الوجه المشروع في مصالح الأمة، لا على المعاصي والشهوات والأهواءِ، من قِبَل السلطة الحاكمة، ولا على ترفيه أنفسِهم وأُسرِهم، ولا لترضية السائرينَ في ركابِهم.
- أن تُؤخذَ من فضل المال، أو ما يزيد عن حاجة الناسِ الأساسية، فمَن كان عنده فضلٌ عن إشباع حاجاته الأساسية؛ أُخذت الضريبةُ مِن هذا الفضلِ.
فإن انتفى شرطٌ منها عُدّتْ ظلمًا وحرُم فرضُها، ووجب على من فُرضتْ عليه حفظ ماله بالتهربِ من دفعها، قال الدردير رحمه الله عند قوله (وَيَحْرُمُ الْكَذِبُ): “اعْلَمْ أَنَّهُ تَعْتَرِيهِ الْأَحْكَامُ، فَيَكُونُ وَاجِبًا لِإِنْقَاذِ نَفْسٍ مَعْصُومَةٍ أَوْ مَالٍ مَعْصُومٍ مِنْ ظَالِمٍ” [الشرح الصغير: 2/524].
عليه؛ فإن كان الحال ما ذكر؛ فينظر إلى الضرائب ذاتها، فإن كانت غير شرعية، وإنما تأخذها الدولة ظلمًا، وتصرِفها في غير حقٍّ شرعيّ؛ فلا بأس بالتهربِ منها، بتغييرِ حقيقةِ الفواتير ونحوها؛ لأن ذلك مِن بابِ رفعِ الظلم ودفعِ الضرر.
وأما إن كانت شرعية، بأن كانت خدمية، أو أنّ الدولة تفرضها لضعف مواردها العامة عن الوفاء بحاجات الأمة ومصالحها، فتفرضُها بالعدل؛ لأجل الوفاء بذلك والقيام به، وإنفاقها بوجه شرعيّ؛ فلا يجوز التهرب منها، ولا التحايل لتخفيفها؛ لأن تحصيلها مما تقتضيه المصلحة العامة، التي لا بد للجميع من التعاون عليها، والالتزام بما يحققها، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
عبد الرحمن بن حسين قدوع
حسن بن سالم الشريف
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
30//ربيع الآخر//1443هـ
05//12//2021م