بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (5961)
ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:
ما حكم المحاريب التي توجد في المساجد؟ أليس فيها تشبه بمحاريب النصارى؟ من حيث إنها فجوة في الجدار تشبه الغرفة، يدخل إليها القس ليصلي بالناس، كما يدخل الإمام عندنا ليؤم الناس، وبعض الناس يزخرفونها بالرخام والأخشاب والإضاءة، كما يفعل النصارى في كنائسهم، فما هو حكم الإبقاء على هذه المحاريب؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فلم يكن المحراب – الذي يصلي فيه الأئمة بالمساجد في زمننا – معمولًا به على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في القرن الأول، وإنما ظهر في القرن الثاني، وتتابع المسلمون على بنائه في مساجدهم؛ ليس تشبها بالنصارى كما ورد في السؤال، وإنما لما فيه من المصلحة، كدلالة الداخل إلى المسجد على جهة القبلة؛ وقد أقرّه أئمة الإسلام من لدن عمر بن عبد العزيز وأتباع النبي صلى الله عليه وسلم وفقهاء الأمّة إلى يومنا هذا.
وصلاة الإمام خارجه أولى إن اتسع المسجد للمصلين، ويتأكد ذلك إن كانت الصلاة فيه تؤدي إلى تباعده عن المأمومين، فإن ضاق المسجد بالمصلين جاز للإمام الصلاة داخله، قال ابن الحاج المالكي رحمه الله: “وَلَمْ يَكُنْ لِلسَّلَف رضي الله عنهم مِحْرَابٌ، وَهُوَ مِنَ الْبِدَعِ الَّتِي أُحْدِثَتْ، لَكِنَّهَا بِدْعَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ إذَا دَخَلُوا الْمَسْجِدَ لَا يَعْرِفُونَ الْقِبْلَةَ إلَّا بِالْمِحْرَابِ؛ فَصَارَتْ مُتَعَيِّنة”، إلى أن قال: “بَلْ يَنْبَغِي لَهُ -أي: الإمام- أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَسْجِدُ لَمْ يَضِقْ بِالنَّاسِ؛ فَلَا يَدْخُلُ الْإِمَامُ إلَى الْمِحْرَابِ، فَإِنْ ضَاقَ بِهِمْ فَلْيَدْخُلْ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَدْخُلْ يُمْسِك بِوُقُوفِهِ خَارِجًا عَنْهُ مَوْضِعَ صَفٍّ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ قَدْ يَسَعُ خَلْقًا كَثِيرًا” [المدخل: 272-273].
وأما زخرفة المساجد وتزيينها بما ذكر، سواء للمحراب أو غيره؛ فمن المكروه الذي ينبغي للناس تجنبه، لما فيه من إشغال المصلين عن الصلاة وذكر الله، قال ابن رشد r: “وَتَحْسِينُ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَتَحْصِينُهَا مِمَّا يُسْتَحَبُّ، وَإِنَّمَا الذِي يُكْرَهُ تَزْوِيقُهَا بِالذَّهَبِ وَشِبْهِهِ، وَالكُتُبِ فِي قِبْلَتِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَشْغَلُ الْمُصَلِّينَ، وَيُلْهِيهِمْ عَنِ الصَّلَاةِ” [البيان والتحصيل: 18/475]، وهو الذي يُخْشَى منه التشبه باليهود والنصارى، فإنهم يبالغون في زخرفة أماكن عبادتهم، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ الْمَسَاجِدِ)، ثم قال ابن عباس رضي الله عنهما: “لَتُزَخْرِفُنَّـهَا كَمَا زَخْرَفَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى” [أبو داود: 448]، وهذا النهي عام، وليس خاصًّا بالمحراب، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
عبد العالي بن امحمد الجمل
حسن بن سالم الشريف
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
10//رمضان//1446هـ
10//03//2025م