ما حكم تصرف الوصي في مالِ المحجور بغير وجه حق؟
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (5186)
ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:
اشترى أبي منزلًا أرضيًّا بطرابلس، فأخذ مِن أمي ذهبها وباعهُ دون رضًا منها، وسحبَ من حساب ابنه المتوفى عام 2001م مالًا قدرُه: (4000) د.ل، ليبني طابقًا ثانيًا، وملحقًا فوقه، ثم قام بتأجير المبنى، وكان ينفقُ من غلته علينا، وعلى أبناءِ ابنه وأمهم، وسائرِ العائلة.
ثم في عام 2016م أصيب أبي بجلطةٍ، أقعدته عن الحركةِ، وأفقدته قواهُ العقلية، فقمتُ بمهامِّه على الوجه الذي كان يقوم به أيامَ صحته، لكونيَ ابنَه الوحيدَ بعد وفاة أخي وأختي، فجعلتُ أنفقُ من ماله عليه، وعلى نفسي وعيالي، ووالدتي، وأبناء أخي وزوجته، وأنفقتُ في علاجه، وفي علاج والدتي من مرضها الذي ماتتْ فيه، وفي نفقاتِ وفاة أختي المتزوجة، وكلتاهما توفيتا عام 2020م، وفي زواج بنت أخي، وقد تسلفتُ لتغطية كل هذه المصاريف، والآن أقضي هذه الديون من إيجارات الوالد.
وكنتُ بنيتُ لزوجة أخي المتوفى وأبنائه بأموالهم، بقيةَ الدور الثالث مِن منزل الوالد، الكائن بطرابلس، وضممته إلى الملحقِ الذي بناهُ، وفي هذه السنة 2023م توفي الوالد، فما هو الحكم الشرعي في تصرفي في مال أبي حال مرضه قبل وفاته، وماذا يلزمني بعدها، وما الحكم في الذهب والمال الذي أخذه من والدتي وأخي؟ علما بأني الوارث الوحيد لأبي.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإنَّ الأصلَ في فاقد العقل أنه محجورٌ عليه للقاضي، لا يجوز التصرف في ماله، حتى يعين له القاضي وصيًّا من أهل الدين والأمانة من أقاربه، قال عليش رحمه الله: “وَلِيُّ الْمَجْنُونِ: الْحَاكِمُ، أَوْ مُقَدَّمُهُ، إِنْ جُنَّ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَرُشْدِهِ” [منح الجليل: 15/4]، ويقوم مقام وصي القاضي؛ مَنْ جرى العرفُ بتولِّيه لشأن المحجور عليه، كأبيه، أو ابنه الكبير، أو عمه، أو جده، قال عليش رحمه الله: “يَمُوتُ الرَّجُلُ عَنْ أَوْلَادٍ صِغَارٍ، وَلَمْ يُوصِ عَلَيْهِمْ، فَتَصَرَّفَ فِي أَمْوَالِهِمْ عَمُّهُمْ أَوْ أَخُوهُمْ الْكَبِيرُ أَوْ جَدُّهُمْ بِالْمَصْلَحَةِ، فَهَلْ هَذَا التَّصَرُّفُ مَاضٍ أَوْ لَا؟… ذَكَرَ أَشْيَاخُنَا أَنَّهُ مَاضٍ لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِأَنَّ مَنْ ذُكِرَ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ”[فتح العلي المالك: 370/2]، والواجب على الوصيِّ رعايةُ مالِ المحجور وفقَ المصلحة، وتنميتُه، والنفقةُ منه على المحجور، وعلى من تلزمه نفقتُهُ بالمعروف، فينفق على زوجته، ووالديه الفقيرين، وأبنائه الذين لم يبلغوا سِنَّ الرشد، وبناته اللاتي لم يدخل بهنّ أزواجهنّ، قال الدردير رحمه الله: “(وَيَتَصَرَّفُ الْوَلِيُّ) عَلَى الْمَحْجُورِ وُجُوباً (بِالْمَصْلَحَةِ) الْعَائِدَةِ عَلَى مَحْجُورِهِ حَالاً أَوْ مَآلاً” [الشرح الصغير: 3/394]، ولا يجوز للوصي أن يصرف مال المحجور بالتبرع والإنفاق على مَن لا تلزمُه نفقته، فإن فعل ذلك لزمه الضمانُ للمحجور، أو لورثته بعد وفاته، بسبب التعدي والتفريط، قال الحطاب رحمه الله: “لِأَنَّ الْوَصِيَّ أَمِينٌ، وَكُلُّ أَمِينٍ إِذَا ضَيَّعَ أَمَانَتَهُ أَوْ تَعَدَّى فِيهَا؛ فَهْوَ ضَامِنٌ لَهَا” [مواهب الجليل: 246/4].
وعليه؛ فقد كان الواجبُ عليك في حياة أبيك بعد فقده لعقله؛ حفظَ مالِه، وعدمَ الإنفاقِ منه في غير ما يجب عليه، فالنفقةُ عليكَ وعلى عيالكَ، وعلى زوجةِ أخيك وأبنائه، وعرسِ بنت أخيك، ونفقات وفاة أختكَ المتزوجة؛ غيرُ لازم له شرعا، فكان يلزمك الضمان للورثة لو كان معك وارث آخر، وحيث إنك الوارث الوحيد؛ فقد سقط عنك ضمانُ ما أنفقتَه من مال أبيكَ في غير ما وجب عليه، لاستحقاقك الميراث وحدك.
وأما أخذُ الأبِ ذهبَ زوجته، وبيعُه دون رضاها، وأخذُه من حساب ابنه المتوفى مبلغًا من المال، قدره: (4000) د.ل؛ فهو من قبيل الدَّين، الذي يجب أداؤه من تركته، وقضاءُ الدَّين من الذهب يكونُ بردّ عينه، ما لم تتغير، أو بردّ مثله بنفس وزنه وصفته، قال الدردير رحمه الله: “وَرَدَّ المُقْتَرِضُ عَلَى المُقْرِضِ مِثْلَهُ قَدْراً وَصِفَةً، أَوْ رَدَّ عَيْنَهُ إِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ فِي ذَاتِهِ عِنْدِهُ” [الشرح الصغير296/3]، فإن جُهل وزنُه وصفته؛ فينبغي أن يقوّمَ بالهيئة التي كان عليها بسعر الوقت، وتدفعَ قيمتُه من النقودِ، بشرط الاتفاق على السعر مع أصحاب الحق، وهم ورثةُ كلٍّ من أخيك وأمك الذِين تُوُفِّيَا عنهم، مع سداده في نفس مجلسِ الاتفاق؛ لأنه صرفٌ يشترُط فيه التقابضُ، قال صلى الله عليه وسلم: (الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ… إلى أن قال: فَإِذَا اخْتَلَفَتِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ) [مسلم: 1587]، وإذا لم يكن لأمك وارثٌ غيرُك؛ فَدَيْنُها يؤول إليك، كما آل إليك مال أبيك، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
أحمد بن ميلاد قدور
عبد العالي بن امحمد الجمل
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
01//ذو القعدة//1444هـ
21//05//2023م