طلب فتوى
التبرعاتالفتاوىالمعاملاتالوقف

مخالفة وثيقة وقف بالبيع والتصرف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

رقم الفتوى (5382)

 

ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:

جاء في وثيقة: “لما علم المكرم س ع ج أن الحبس من الأعمال الدائمة بعد الموت، وأن الحبس من خصائص هذه الأمة المشرفة؛ لأنه من الأعمال المندوبة شرعا، وأراد التقرب إلى الله تعالى والتزلف إليه، أشهدنا على نفسه حفظه… حبس جميع ما تحت يده وعلى ملكه وفي حوزه وتصرفه من العقار والدور الذي سيذكر ويفسر ويحدد بعدُ على بناته (خ)، و(ح)، و(ن)، و(ع)، و(خ) أخماسا بينهم سوية وما يزاد معهم من صلبه ذكرا أو أنثى إن قُدِّرَ بذلك، ثم على بنيهم وبني بنيهم واحدا بعد واحد وجيلا بعد جيل إلى آخر العقب طبقة بعد طبقة، وفرعا بعد فرع، ما تناسلوا وامتد فرعهم في الإسلام، ومن مات منهم ولو قبل المستحقين بالفعل عن أبناء ذكور وإناث تنزل بنوه منزلته واحدا كان أو أكثر، واستحق من الحبس ما كان يستحقه الأصل على الفريضة الشرعية، ومن مات منهم من غير أبناء رجع نصيبه لشركائه في الوقف سواء كانوا إخوة أشقاء أو لأب أو أبناء عم يستحقون من الحبس على الفريضة، فإن انقطعوا رجع وقفا للأقرب… حبسا مؤبدا ووقفا مسرمدا، لا يباع ولا يشترى ولا يوهب ولا يورث، حتى يرث الله الأرض ومن عليها… واستثنى المحبس المذكور ثلث الغلة المذكورة… يتمعش بها مدة حياته، فإذا مات لحق ذلك بالوقف المذكور… فقبلت لها خ المذكورة ولأخواتها المذكورين قبولا تاما، وحازت لهم من والدها س ع ج الأملاك المذكورة بالتطوّفِ بحدودها المذكورة، وقبضِ التراب وتنقية الأشجار وفتحِ الأبواب وغلقها…”، وبعد ذلك قام المحبس بالتصرف في بعض العقارات المحبسة، وقد توفيت ابنته خ في حياته عن أم وأب وزوج وبنت، ثم توفي هو عن بناته الأربع فقط وزوجته، ثم توفيت زوجته، ونرجو منكم بيان ما يلي:

  1. ما الوصف الشرعي لما جاء في هذه الوثيقة؟ أهي وصية، أم حبس؟
  2. إيضاح من يستحق هذه العقارات، وما يستحقه كلٌّ من بنات المحبس وأبنائهن.
  3. ما حكم المعاملات التي تمت بعد فترة التحبيس؟ حيث اشترى ابن ح نصيب خالاته في أحد العقارات وفيهم نصيب ح، بغير إذن ورثتها (زوجها وبنتها)، وبنى عليه مسكنا، واشترى ابن ن نصيب خالاته في عقار آخر وفيهم نصيب ح، بغير إذن ورثتها، وبنى عليه مسكنا، واشترت ابنة خ نصيب خالتها في واحد من العقارات، وبنتْ عليه مسكنًا أيضًا.

الجواب:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

فإن المذكور في الوثيقة المشار إليها في السؤال هو حبس وليس وصية، وذلك بنص المحبس؛ إذ يقول: (حبسا مؤبدا ووقفا مسرمدا)، والحبس والوقف شيء واحد. وتصرف الواقفِ في بعض ما حبّسه إن كان بالانتفاع فقط -بناء على ما ذكر في الوثيقة من استثنائه الثلث يستغله في حياته- فذلك جائز، ولا يؤثر في صحة الوقف، قال ابن وهب رحمه الله: “قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ حَبَّسَ دَارَهُ عَلَى وَلَدِهِ، وَاسْتَثْنَى مِنْهَا بَيْتًا يَسْكُنُهُ حَيَاتَهُ فَذَلِكَ جَائِزٌ” [النوادر والزيادات: 12/114]، وإن كان التصرف بالبيع، فإنه يُفسَخ، ويُرَدّ المبيع وقفًا؛ لأن بيع الوقف باطلٌ ولو صدر من المحبس، قال ابن سهل رحمه الله: “وَبَيْعُ الْحُبُسِ لَا يَجُوزُ، وَإِذَا بِيعَ فَالْبَيْعُ فِيهِ مَفْسُوخٌ” [الإعلام بنوازل الأحكام: 66].

وأما من يستحق هذا الحبس، فهم بنات س الخمسة، مُقسَّما بينهم أخماسًا، وليس لزوجته منه شيءٌ، فتأخذ كل بنتٍ خُمُسَه، وأما (خ) التي توفيت في حياة والديها، فليس لزوجها ولا لأمها نصيب فيه، بل ينصرف كله لابنتها الوحيدة كما نص عليه الواقف؛ لأنه ليس ميراثا، ثم يكون بعد ذلك لمن وُلِدَ لبنات المحبِّس الخمسةِ من ذكور وإناثٍ، ثم لمن يولد لهم ذكورا وإناثا، وهكذا إلى آخر العَقِبِ؛ لأنّ لفظ البنين مع التعقيب يدخل فيه الذكور والإناث على قولٍ في المذهب كلفظ الولد، قال ابن رشد رحمه الله: “وَأَمَّا ‌لَفْظُ ‌الْبَنِينَ فِي قَوْلِهِ: حَبَّسْتُ عَلَى بَنِيَّ أَوْ عَلَى بَنِيَّ وَبَنِي بَنِيَّ، أَوْ عَلَى بَنِيَّ وَبَنِيهِمْ؛ فَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ كَالْحُكْمِ فِي لَفْظِ الْوَلَدِ وَالْعَقِبِ” [المقدمات: 2/438]، وقال في لفظ الولد: “إِذَا قَالَ الْمُحَبِّسُ: حَبَّسْتُ عَلَى وَلَدِي وَوَلَدِ وَلَدِي، أَوْ عَلَى أَوْلَادِي وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي؛ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الشُّيُوخِ إِلَى أَنَّ وَلَدَ الْبَنَاتِ يَدْخُلُونَ فِي ذَلِكَ” [المقدمات: 2/427].

ولا يجوز لمستحق الوقف بيع شيء منه؛ لأن التحبيس ليس تمليكًا، وإنما يجعل له حق الانتفاع بما لا يُذهِب عينَه، وفي بيعه تبديلٌ لغرضِ الواقف، والله سبحانه  يقول: ﴿فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ [البقرة: 181]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه في صدقته: (إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا)، فقال عمر رضي الله عنه بعد ذلك: “لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا يُوهَبُ، وَلَا يُورَثُ” [النسائي: 6393]، فيحرمُ بيع شيءٍ من الأحباس؛ لأنه تعدٍّ عليها.

وما حصلَ من البيع لأرضِ الحبس باطلٌ، يجبُ فسخهُ وردّ المبيع وقفًا كما كان، ويرجع المشتري على البائع بالثمنِ، قال الشيخ ميارة رحمه الله: “أَنَّ الْبَيْعَ يُرَدُّ، وَيُفْسَخُ مُطْلَقًا، عَلِمَ الْبَائِعُ بِكَوْنِهِ حُبُسًا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ… إذَا فُسِخَ الْبَيْعُ فَإِنَّ الْبَائِعَ يَرُدُّ الثَّمَنَ الَّذِي قَبَضَ، فَإِنْ كَانَ مَلِيًّا فَلَا إشْكَالَ، وَإِنْ كَانَ مُعْدِمًا فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يُمَكَّنُ مِنْ قَبْضِ غَلَّةِ ذَلِكَ الْحُبْسِ فِي مُقَابَلَةِ مَا دَفَعَ مِنَ الثَّمَنِ”  [الإتقان والإحكام في شرح تحفة الحكام: 2/148].

واقتسام الوقف بين المستحقين له يكون بالتراضي، إما بالأزمان بأن ينتفع كلٌّ من الشركاء زمنًا، وإما أن يأخذ كلٌّ منهم جهةً ينتفع بها، قال الشيخ عليش رحمه الله: “‌وَأَمَّا ‌قَسْمُهُ ‌مُهَايَأَةً ‌عَلَى ‌أَنَّهُ ‌يَأْخُذُ بَعْضُ الْمُحَبَّسِ عَلَيْهِ مَوْضِعًا وَالْآخَرُ مَوْضِعًا لِيَنْتَفِعَ كُلُّ وَاحِدٍ بِمَا أَخَذَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِالتَّرَاضِي” [فتح العلي المالك: 2/254].

وأما البناء على الأرض المحبسة؛ فللموقوف عليه أن يبني فيما صح له من الأرض الموقوفة، سواء للسكنى أو للكراء، فإن كان للسكنى سكنها الموقوف عليه، ثم تصير لمستحق الوقف من بعده، وأما إن كانت للكراء فإنه يُكْرِيها، ويأخذ من كرائها قدْرَ ما أنفقه في البناء؛ ثم يكون البناء بعد ذلك للوقف، ويدخل معه في أخذ الكراء سائر الموقوف عليهم، قال ابن رشد رحمه الله: “قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الدَّارِ الْحُبُسِ عَلَى قَبِيلَةٍ فَيَأْتِي رَجُلٌ مِنْهُمْ فَيَبْنِي فِيهَا الْحَوَانِيتَ وَالْبُيُوتَ لِلْغَلَّةِ وَالسُّكْنَى… قال: أَمَّا السُّكْنَى فَمَنْ سَكَنَ مِنْهُمْ فَهُوَ أَوْلَى بِمَا سَكَنَ مِمَّا يَكْفِيهِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَأَمَّا مَا بَنَى لِلْغَلَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَاضِيَ نَفْسَهُ بِمَا يَسْتَوْفِي مِنَ الْخَرَاجِ، فَيَتَقَاضَى مِنَ الْخَرَاجِ مَا أَنْفَقَ فِي الْبُنْيَانِ، فَإِذَا تَقَاضَى مَا أَنْفَقَ فِي الْبُنْيَانِ فَالْكِرَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ لِجَمِيعِ مَنْ حُبِّسَ عَلَيْهِ” [البيان والتحصيل: 12/279].

عليه؛ فالواجب العمل بما نص عليه المحبس، من قصد الانتفاع على الوجه المبيَّنِ، دون التملّك، أو التصرف ببيعٍ، أو توريث، أو هبة، والله أعلم.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

 

 

لجنة الفتوى بدار الإفتاء:

حسن بن سالم الشريف

عبد الدائم بن سليم الشوماني

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

مفتي عام ليبيا

5/جمادى الأولى/1445 هـ

19/نوفمبر/2023 م  

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق