هبة صحيحة ماضية نافذة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (5593)
ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:
نحن الموقعين في الوثيقة المرفقة، أبناء المتوفَّى (ض)، نسأل عن حكم تنازلِ أبينا عن منزله، الذي كان يسكن فيه لابنِ ابنهِ (م) سنة 2002م، عندما كان عمره ستَّ سنوات، وقبل ذلك في سنة 1988م بنى أبونا غرفتينِ خارجَ المنزل المذكور وسكن فيهما؛ ومكَّن ابنه (س) من الزواج في منزله الذي تنازلَ عنه بعد ذلك، وفي سنة 2000م توفِّيَت أمُّنا، فرجع أبونا للسكن في الصالون الخارجي للمنزل القديم، ثم توفي سنة 2005م، ثم في سنة 2015م توفي الابن (س)، واستمرَّت زوجته وأولاده في الإقامة في البيت المذكور، إلى يوم: 05/ 03/ 2024م، الذي انتقلوا فيه إلى بيتٍ آخر جديد، اكتمل بناؤه بعد أن شرع فيه أبوهم قبل وفاته، علمًا أنَّ المنزل القديم لم تجرَ له أيّ صيانة ولا إضافة.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فالتنازلُ المذكورُ يعدُّ مِن قَبيل الهبةِ، وشرطُ تمام الهبةِ أن يحوزَها الموهوبُ له في حياةِ الواهبِ، ويتصرف فيها تصرفَ المالك في ملكهِ، قال ابن أبي زيد رحمه الله: “ولاَ تَتِمُّ هِبَةٌ وَلاَ صَدَقَةٌ وَلاَ حُبُسٌ إِلاَّ بِالْحِيَازَةِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَن تُحَازَ فَهْيَ مِيرَاثٌ” [الرسالة: 117]، والحيازة كما قال أبو الحسن المنوفي رحمه الله: “هِيَ وَضْعُ اليَدِ، وَالتَّصَرُّفُ فِي الشَّيْءِ الْمَحُوزِ كَتَصَرُّفِ الْمَالِكِ فِي ملْكِهِ؛ بِالْبِنَاءِ، وَالْغَرْسِ، وَالْهَدْمِ، وَغَيْرِهِ مِنْ وُجُوهِ التَّصَرُّفِ” [كفاية الطالب الرباني: 482/2].
وسكنى الأب في بيت الجدّ من غير أجرةٍ حوزٌ لابنه الصغير، ما دام الجد قد أخلى معظم البيت من شواغله، جاء عن عليش رحمه الله: “(مَا قَوْلُكُمْ) فِيمَنْ وَهَبَتْ لِابْنِ بِنْتِهَا بَيْتًا سَاكِنًا فِيهِ أَبُوهُ بِلَا أُجْرَةٍ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ، وَالْمَوْهُوبُ لَهُ صَغِيرٌ، وَاسْتَمَرَّ الْأَبُ سَاكِنًا فِيهِ كَذَلِكَ إلَى وَفَاتِهَا، فَهَلْ تَكُونُ سُكْنَاهُ حِيَازَةً لِابْنِهِ؟ وَلَا تَبْطُلُ الْهِبَةُ بِمَوْتِهَا؟ وَلَا يَكُونُ لِوَارِثِ الْوَاهِبَةِ مُعَارَضَتُهُ فِي الْهِبَةِ؟ …. فَأَجَبْتُ بِمَا نَصُّهُ: نَعَمْ سُكْنَى الْأَبِ بِلَا أُجْرَةٍ حِيَازَةٌ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ؛ فَلَمْ تَبْطُلِ الْهِبَةُ بِمَوْتِ الْوَاهِبَةِ؛ فَلَيْسَ لِوَارِثِهَا مُعَارَضَةُ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِي الْهِبَةِ، قَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ وَشَرْحِهِ لِعَبْدِ الْبَاقِي: وَصَحَّ حَوْزُ مُخْدَمٍ يَهَبُهُ سَيِّدُهُ لِغَيْرِ مَنْ أَخْدَمَهُ وَمُسْتَعِيرٌ لِلْمَوْهُوبِ فَيَصِحُّ حَوْزُهُمَا لَهُ مُطْلَقًا، عَلِمَا بِالْهِبَةِ أَمْ لَا، تَقَدَّمَا عَلَى الْهِبَةِ أَوْ صَاحَبَاهَا” [فتح العلي المالك: 2/ 286-287].
ويشترط لصحة هبة دارِ السكنى أنْ يُخْليَها الواهبُ من متاعه، أو يسكنَ أقلَّها، قال الدسوقي رحمه الله: “وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ سَكَنَ جَمِيعَهَا [أي: دَارَ سُكْنَاهُ] بَطَلَ الْجَمِيعُ، كَانَ الْوَلَدُ كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا، وَإِنْ أَخْلَاهَا كُلَّهَا مِنْ شَوَاغِلِهِ أَوْ سَكَنَ أَقَلَّهَا صَحَّ جَمِيعُهَا، كَانَ الْوَلَدُ كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا” [حاشية الدسوقي: 108/4].
عليه؛ فالتنازل المذكور يعدّ هبةً صحيحةً نافذةً شرعًا؛ لأن الواهب (الجد) سكنَ الأقلّ؛ ولأن حوزَ الأب المستعير حوزٌ لابنه، فالمنزلُ بذلك ملكٌ لمن وُهبَ له، وهو ابنُ الابن، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
عبد العالي بن امحمد الجمل
أحمد بن ميلاد قدور
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
13/شوال/1445هـ
22/04/2024م