بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (4144)
ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:
قام رجل ببناء عمارة سكنية، تشتمل على صالتين أرضيتين وأربع شقق، وبستان به نخيل، وقد سكن الباني في شقةٍ منها، وأسكن أبناءه في باقي الشقق، ثم بعد وفاة زوجته الأولى وقبل الزواج بالثانية، قام بالتنازل عن كامل العمارة – باستثناء الشقة التي يقيم فيها – لأبنائه وبناته، على أن للذكر مثل حظ الأنثيين، فما حكم التنازل الذي قام به؟ وكيف تتم قسمة العمارة على الورثة؟ علما أنّ له ثلاثة أبناء وخمس بنات، وقد بقي الأبناء يسكنون في الشقق إلى حين وفاة والدهم، وتوفيت إحدى البنات قبل والدها، ثم بعد وفاته قام الورثة بإعطاء الزوجة الثانية نصيبها من الشقة، التي كان يقيم فيها والدهم المتنازِل.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإنّ من تنازل عن شيء من أملاكه دون مقابل يعدّ تنازله من قبيل الهبة، ومن شرط تمام الهبة حصول الحيازة، قال ابن أبي زيد القيرواني: “وَلَا تَتِمُّ هِبَةٌ وَلَا صَدَقَةٌ وَلَا حُبُسٌ إِلَّا بِالحِيَازَةِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تُحَازَ فَهِيَ مِيرَاثٌ” [الرسالة:117].
والحيازة في العقار تكون برفع الواهب يده بالكلّية عن العقار الموهوب، مع تصرّف الموهوب له في العقار تصرّفًا يدل على التملّك حال حياة الواهب، قال الرجراجي: “وَأَمَّا الدُّورُ فَلَا يَخْلُو الوَاهِبُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا سَاكِنًا أَوْ غَيْرَ سَاكِنٍ… فَإِنْ كَانَ الوَاهِبُ سَاكِنًا فِيها، أَوْ فِي غَيْرِهَا فَفَرّغَهَا، وَمَكَّنَ المَوْهوبَ لَهُ مِنْ حَوْزِهَا، فَإِنْ فَعَلَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الحَوْزِ صَحّتْ لَهُ الهِبَةُ؛ مِثْلَ أَنْ يَسْكُنَ فِيهَا أَوْ يُكْرِيَهَا مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ يُسْكِنَ فِيهَا مَنْ شَاءَ بِأَيِّ وَجْهٍ شَاءَ، أَوْ أَخَذَ مَفَاتِيحَهَا وَأَغْلَقَهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ حِيَازَةٌ تَصِحُّ بِهَا الهِبَةُ لِلْمَوْهُوبِ فِي حَيَاةِ الوَاهِبِ وَصِحَّتِهِ. وَلَوْ لَمْ يَعْمَلْ فِيهَا عَمَلًا، وَلَا أَذِنَ إِلَيْهَا بِوَجْهٍ، وَتَرَكَهَا مُهْمَلَةً غَيْرَ مُغْلَقَةٍ، وَلَا انْتَفَعَ بِهَا بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ حَتَّى مَاتَ الوَاهِبُ أَوْ مَرِضَ لَكَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الأَرْضِ التِي لَمْ يَزْرَعْهَا فِي إِبّانِ زِرَاعَتِهَا حَتّى مَرِضَ الوَاهِبُ أَوْ مَاتَ، فَإِنَّ الهِبَةَ فِيهَا بَاطِلَةٌ”[مناهج التحصيل: 9/369].
فإن كانت الهبة تشتمل على أمور متعدّدة، وكان الموهوب له بالغًا رشيدًا وحاز بعضها، نفذت الهبة فيما حازه، ويُنظر في غير المحوز؛ فإن كان يساوي ثلث جميع الموهوب نفذت فيه الهبة أيضًا، وإن كان غير المحوز أكثر من الثلث رجع ميراثًا، يقسم على جميع الورثة، قال القاضي أبو القاسم ابن ورد -وقد سئل عمّن تصدّق بقرية وفيها أرض وكرم ودور فسكن منها دارًا، هل يصح الجميع وتكون الدار تبعًا للجميع، كالدار في الدور التي لها عدد إذا الصدقة بالجميع في مرة واحدة- قال: إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الصَّدَقَةُ التي سَأَلْتَ عَنْها عَلَى مَنْ يَحوزُ لهُ المتصدِّقُ، وَوَقَعَ السُّكنَى فِي ثُلُثِ الكُلِّ فَدُونَ، فَإنَّ الصّدقَةَ كلَّها جَائِزَةٌ، وَإِنْ كَانَ وَقَعَ السُّكنَى فِي النّصفِ أَوْ دونَ النّصفِ وَفَوْقَ الثّلثِ بَطَلَ مَا سَكَنَ وَجَازَ مَا لَمْ يَسْكُنْ، وَإِنْ كَانَ السّكنَى فَوقَ النّصفِ بَطلَ الكلُّ، وأمّا إِنْ كَانَتِ -أي الصدقة- عَلَى مَنْ يَحُوزُ لِنَفْسِهِ فَسَكَنَ المُتَصَدِّقُ الأَقَلَّ جَازَ الجَمِيعُ أَيْضًا، إِنْ حَازَ المُتَصَدَّقُ عَلَيْهِمُ الأَكْثَرَ، وَإِنْ لَمْ يَحوزُوهُ بَطَلَ، وَإِنْ سَكَنَ الأَكْثَرَ وَحَازَ المُتصدَّقُ عَلَيْهِمُ الأَقَلَّ جَازَ لَهُمْ مَا حَازُوهُ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَمَشْهُورِهِ، وجلُّه اسْتِحْسَانٌ” [المعيار: 8/65].
عليه؛ فإن كان الحال كما ذكر في السؤال، ففي قسمة العمارة تفصيل؛ أمّا الشقة التي كان الواهب مقيمًا فيها، فلا تستحق فيها الزوجة شيئًا، بعد تعويض الورثة لها عن نصيبها فيها، وأما الشقق التي سكنها الأبناء فهي من نصيب الموهوب لهم؛ لتحقق الحيازة فيها، ويُعدُّ الأبناء نائبين عن البنات في حيازتهم لها، وأما باقي الجزء الموهوب من العمارة -وهو الصالتان الأرضيتان وبستان النخيل-، فإن كان الواهب قد رفع يده عنه، وتصرّف الموهوب لهم فيه تصرّفًا يدلّ على تملكهم إياه، فيختصّون به أيضًا، وإن كان الواهب لم يرفع يده عنهُ، وبقي يستغلّه إلى حين وفاتهِ، فينظر في قيمته بالنسبة إلى مجموع قيمة الموهوب يوم الهبة؛ فإن كانت تساوي ثلث قيمة الهبة فأقلّ اختصّ به الموهوب لهم أيضًا؛ لأنه صار تبعًا للمحوز، وإن كانت أكثر من الثلث بقي الجزء غير المحوز على ملك والدهم، فيقسم بين ورثته جميعًا، وعند قسمة الموهوب لهم لما صح لهم من الهبة، تنتقلُ حصةُ البنت التي توفيت قبل والدها إلى ورثتها، ثم يقسم مناب والدها في إرثها بين جميع ورثتهِ، بمن فيهم الزوجة، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
أحمد ميلاد قدور
حسن سالم الشريف
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
13// رجب// 1441هـ
08//03// 2020م