طلب فتوى
التبرعاتالفتاوىالمعاملاتالوقف

هل تتوقف صحة الوقف على الإشهاد أمام المحاكم؟ أم ينعقد بمجرد اللفظ؟

تقييد وليّ الأمر للمباح مشروط برجحان المصلحة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

رقم الفتوى (4868)

 

ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:

قام شقيقي قبل وفاته بتحبيس عقار مساحته ثلاثة آلاف متر مربع على أن ينفق ريع الأرض على مسجد ومركز لتحفيظ القرآن الكريم، صدقةً جارية عليه وعلى أبنائه وبناته ووالديه وإخوته، وذلك بموجب وثيقة تحبيس عرفية أَشهد عليها في سنة 2015م، وقد عيّن ابن أخيه ناظرا عليه، لكن اعترض أبناء المحبِّس على الوقف؛ لعدم قيام مورثهم بالإشهاد عليه أمام القاضي لتوثيقه أمام المحكمة الابتدائية الشرعية، وفقا لنص المادتين الثانية والثالثة من القانون رقم 124/1972م، فهل يحق للأبناء الذكور إنكار هذا الوقف مع أنه لا يتجاوز ثلث تركته، وما حكم أكلهم لهذا المال، وهل اشتراط القانون الإشهاد أمام المحكمة الابتدائية لصحّة الوقف وإثباته مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية، وهل يحصل للواقف الأجر في حال عدم تنفيذه؟

الجواب:

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

فإن الوقف –عند جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة وصاحبي أبي حنيفة- ينعقد بمجرد اللفظ، ولا يشترط لصحته الإشهاد أمام الحاكم، ففي العتبية قال ابن القاسم: “إِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ أَنّهُمَا كَانَا يَسْمَعَانِ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ حُبُسٌ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا وَكَانَتْ حُبُسًا عَلَى المَسَاكِينِ إِنْ كَانَ لَمْ يُسَمِّ أَحَدًا” [مواهب الجليل: 6/193]. كما لا يشترط في تتميمه القبض ولا الحيازة عند غير المالكية، قال الماوردي رحمه الله: “فَإِذَا وَقَفَ شَيْئًا زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ بِنَفْسِ الْوَقْفِ وَلَزِمَ الْوَقْفُ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا التَّصَرُّفُ فِيهِ بِبَيْعٍ وَلَا هِبَةٍ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْ وَرَثَتِهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ لُزُومُ الْقَبْضِ وَلَا حُكْمُ الْحَاكِمِ” [الحاوي الكبير: 7/511]، وقال البهوتي الحنبلي رحمه الله: “(وَلَا يُشْتَرَطُ لِلُزُومِهِ) أَيِ ‌الوَقْفِ (إِخْرَاجُهُ) أَيِ المَوْقُوفِ (عَنْ يَدِهِ) نَصًّا؛ لِحَدِيثِ عُمَرَ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ وَقْفَهُ كَانَ بِيَدِهِ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَلِأَنَّ ‌الوَقْفَ تَبَرُّعٌ يَمْنَعُ البَيْعَ وَالهِبَةَ، فَلَزِمَ بِمُجّرَدِ الّلفْظِ كَالعِتْقِ” ]شرح منتهى الإرادات: 2/406[، وهو قول أبي يوسف من الحنفية، قال ابن نجيم رحمه الله: “وَالْأَخْذُ بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ‌أَحْوَطُ ‌وَأَسْهَلُ؛ وَلِذَا قَالَ فِي الْمُحِيط: وَمَشَايِخُنَا أَخَذُوا بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ تَرْغِيبًا لِلنَّاسِ فِي الْوَقْفِ” [البحر الرائق:5/212].

فما جاء في القانون المشار إليه في السؤال من توقف صحة الوقف على الإشهاد أمام المحاكم هو مخالف لما تقدّم نقله عن الأئمة من المذاهب الأربعة، فليس الإشهاد أمام المحاكم شرطا في صحة الوقف؛ لأن الأصل ثبوت حق تصرف المرء فيما يملكه، سواء بالبيع أو الهبة أو الوقف أو غيرها من التصرفات الجائزة شرعًا، وليس ما جاء في القانون من تقييد وليّ الأمر للمباح المعتبر شرعا؛ لأن تقييد وليّ الأمر للمباح مشروط برجحان المصلحة، وليس في اشتراط صحة الوقف بالإشهاد عليه أمام المحاكم مصلحة راجحة، بل المصلحة في تركه؛ لما في الترك من الاحتياط لجانب الوقف وترغيب الناس فيه؛ لأنّ عامّة الناس لا ينشطون ويتكلّفون في أحباسهم الإشهاد عليها أمام المحاكم، فالقول به يُبطل أكثر ما يعقدونه منها.

عليه؛ فإنّ الوقف المذكور صحيح يلزم الوفاء به؛ لثبوته في الوثيقة المرفقة التي شهد عليها الشهود، ولا يجوز للورثة أن يقتسموه بينهم أو ينتفعوا به؛ لما في ذلك من التعدّي على الحبُس والتّبديل لوصيّة المحبِّس، قال الله تعالى: ﴿فَمَنم بَدَّلَهُو بَعْدَ مَا سَمِعَهُو فَإِنَّمَا إِثْمُهُو عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُو إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 181]، وقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه، في أرض أراد أن يُحبِّسها: (… لاَ يُبَاعُ، وَلاَ يُوهَبُ، وَلاَ يُورَثُ) [البخاري: 2764].

وأما حصول أصل الأجر للمحبِّس مع امتناع الورثة عن تنفيذ الوقف، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (إِنَّمَا الأَعْمَالُ ‌بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) [البخاري: 1]، وقال صلى الله عليه وسلم: “فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ” [البخاري: 6491]، ففضل الله واسع، ولا شك أن الورثة لو نفذوا الوقف لكان الأجر للمحبِّس أعظم؛ لأن أجر الحبس يتجدد ولا ينقطع ما دام قائما،  قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ ‌إِلَّا ‌مِنْ ‌ثَلَاثٍ) وذكر منها (صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ) [الترمذي: 1376]، والله أعلم.

وصلَّى الله على سيّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم

 

 

لجنة الفتوى بدار الإفتاء:

أحمد بن ميلاد قدور

عبد الرحمن بن حسين قدوع

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

مفتي عام ليبيا

14//ذي القعدة//1443هـ

14//06//2022م

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق