بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (4329)
ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤالان التاليان:
السؤال الأول: هل تصحّ الصلاة بالمسح على الجورب، الذي يسميه العامة ببلدنا بـ(الشخشير)؟
الجواب:
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أمّا بعد:
فإنَّ المسحَ على الجوربِ، الذي ظاهره وباطنه غير مجلدٍ، فيه خلافٌ بين أهل العلم، المتقدمين والمتأخرين، وخلاصة الأقوال في هذه المسألة؛ أنه قال بالمسح على الجورب جماعة من الصحابة، وجوزه الحنابلة، ولا يجوز عند المالكيّة والحنفيّة، وجوزه صاحبَا أبي حنيفة محمد وأبو يوسف، وعند الشافعية خلاف، منهم من يشترط أن يكون مجلدًا، ومنهم من يشترط أن يكون منعلًا، أي يلبس معه نعلٌ من أسفل، ليمسح عليه وعلى النعل، ومنهم من جوزه مطلقًا، إذا أمكن تتابع المشي فيه، وقال ابن حزم رحمه الله: “المسحُ عليهما سنة” [المحلى: 2/80]، وسبب الاختلاف بين العلماء في صحة المسح على الجورب من عدمها، اختلافُهم في صحة الأحاديث الدالة عليه، وهل يقاسُ الجورب على الخفّ في المسح؟
وعليه؛ فالمسألة من مسائل الخلاف، ومسائل الخلافِ لا يجوز الإنكار والتشددُ فيها، ولا تعريض المسلمين بسببها إلى الانقسام، فمن مسحَ على الجورب يصلَّى خلفه، ولا ينكرُ عليه، كما يفعلُ بعض الناس اليوم عندنا، ومن ترك المسحَ احتياطًا لدينه، أو رغبة في الأفضل، أو خروجًا من الخلافِ في مسألة اجتهادية، وإيثارًا لما تكون عليه العبادة صحيحة بالإجماع، ولم يترك المسح بنية التشددِ والإعراضِ عن الرخصة؛ لا ينكر عليه، ولا يقال له تركتَ سنة؛ لأنه أخذ في دينه بالحزمِ، وذلك محمودٌ، قال الليث بن سعد رحمه الله: “إِذَا جَاءَ الِاخْتِلَافُ أَخَذْنَا بِالْأًحْوَطِ” [جامع بيان العلم: 2/81]، وقال العز بن عبد السلام رحمه الله: “الْأَوْلَى التزَامُ الْأَشَدّ وَالْأَحْوَط لِلدّينِ، فَإِنَّ مَن عَزّ عَلَيْهِ دِينَهُ تَوَرَّعَ” [المعيار: 6/382]، والله أعلم.
السؤال الثاني: ما هي الأوقاتُ التي تبطلُ فيها النوافل، وكم تقديرُ الوقت الذي تحرمُ فيه الصلاةُ عند شروق الشمسِ وعند الزوالِ وقبل المغرب، وما حكم تحيةِ المسجد قبل الغروبِ بخمس دقائق؟
الجواب:
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أمّا بعد:
فالأوقات التي تبطلُ فيها الصلاة ويجب قطعها لمن شرعَ فيها هي: وقت طلوع الشمس وغروبها، وعند صعود الخطيب للمنبر وأثناء الخُطبة، وإذا ضاق الوقت الاختياري أو الضروري للصلاة ولم يَسَعْ إلا الفرض، فالواجب المسارعة بالفرضِ ويحرمُ التنفل، وأما عند الزوال فلا حرمة عند المالكية، وهو وقتٌ تصح فيه النافلة، واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ) [البخاري:652، مسلم: 1914]، وبفعل الناس على عهد عمر أنهم كانوا يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر، قال مالك رحمه الله: “إِنَّهُ لَمْ يَرَ أَحَداً يَتَوَرَّعُ عَنِ السُّجُودِ فِي هَذَا الْوَقْتِ” [التمهيد: 4/18]، ويقدر وقت التحريم عند الطلوع بأول ظهور قرص الشمس إلى أن تتكامل في طلوعها، وعند الغروب ببداية اختفاء قرص الشمس إلى أن يختفي بالكامل، والظاهر أن العشر دقائق بعد الشروق وبعد الغروب كافية، وتحية المسجد وغيرها من النوافل سواء في الحرمة والبطلان في هذا الوقت، فيقطع الصلاة من شرع في تحية المسجد قبل المغرب بخمس دقائق؛ لأنه وقت حرمة أو كراهة شديدة، قال البشّار رحمه الله:
وَيُمْنَعُ النَّفْلُ لِضِيقِ الْوَقْتِ ** بِفِعْلِهِ وَلْيَقْضِ مَا فِي الذِّمَّةِ
وَحِينَ يَرْقَى الْمِنْبَرَ الْخَطِيبُ ** كَذَا طُلُوعُ الشَّمْسِ وَالْغُرُوبُ
قال الجعْلِي رحمه الله شارحًا: “يَحْرُمُ عَلَى الْمُكَلَّفِ التَّنَفُّلُ عِندَ الْوَقْتِ الِاخْتِيَارِي أَوِ الضَّرُورِي… لِأَنَّ فِعْلَهُ إِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ الْمُخْتَارِ يُؤَدِّي إِلَى إِيقَاعِ الْفَرِيضَةِ فِي الضَّرُورِي، وَهَذَا حَرَامٌ يَأْثَمُ فَاعِلُهُ، وَإِذَا ضَاقَ وَقْتُ الضَّرُورَةِ يُؤَدِّي فِعْلُ النَّافِلَةِ إِلَى خُرُوجِ الْوَقْتِ وَجَعْلِ الْحَاضِرَةِ فَائِتَةً وَهْوَ لاَ يَجُوزُ… وَيَحْرُمُ أَيْضاً التَّنَفُّلُ إِذَا رَقِيَ الْخَطِيبُ لِخُطْبَةِ جُمُعَةٍ، لِأَنَّهُ يُشْغِلُ عَن سَمَاعِهَا الْوَاجِبِ، وَيَحْرُمُ أَيْضًا عِندَ خُرُوجِهِ لَهَا أَيْ الْخُطْبَةِ… وَكَذَا يَحْرُمُ التَّنَفُّلُ عِندَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَيْ: إِذَا بَدَا حَاجِبُهَا إِلَى أَن تَتَكَامَلَ فِي طُلُوعِهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ إِذَا تَلَبَّسَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَإِذَا تَكَامَلَ قُرْصُ الشَّمْسِ كُرِهَ النَّفْلُ إِلَى أَن تَرْتَفِعَ قَيْدَ رُمْحٍ، وَهْوَ اثْنَا عَشَرَ مِتْراً فيِ التَّقْدِيرِ، وَهْوَ وَقْتُ حِلِّ النَّافِلَةِ، وَيَحْرُمُ التَّنَفُّلُ عِندَ غُرُوبِهَا: أَيْ أَخْذِهَا فِي الْغُرُوبِ حَتَّى يَتَوَارَى قُرْصُهَا” [سراج السالك شرح أسهل المسالك: 135]، وقال الدردير رحمه الله: “(وَفَسَدَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ) أَيْ بَطَلَ أَيْ لَمْ يَنْعَقِدْ سَوَاءٌ كَانَ عِبَادَةً .. أَوْ عَقْدًا ..؛ لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ (إلَّا لِدَلِيلٍ) يَدُلُّ عَلَى الصِّحَّةِ .. وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا فَسَادُ الصَّلَاةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهَا وَلَا دَلَالَةَ لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَقَطَعَ مُحْرِمٌ بِوَقْتِ نَهْيٍ عَلَى الصِّحَّةِ”، قال الدسوقي: “(قَوْلُهُ: وَلَا دَلَالَةَ إلَخْ) لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى تَرْكُ التَّلَبُّسِ بِهَذَا الْأَمْرِ الْغَيْرِ الْمُنْعَقِدِ” [الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 3/54]، والله أعلم.
وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
عبد الدائم بن سليم الشوماني
عبد العالي بن امحمد الجمل
الصّادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
06//جمادى الأولى//1442هـ
21// ديسمبر//2020م