بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (4859)
ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:
تزوجتُ سنة 2004م، على صداق قدره أحدَ عشرَ ألفا وخمسمائة دينار، الحال منه خمسمائة دينار، وستة آلاف دينار قيمة الذهب، والمؤجل منه خمسون ليرة ذهب، ثم سافرتُ خارج البلاد لغرض الدراسة، وفي سنة 2019م -نظرًا لكثرة المشاكل بيننا- لجأتْ زوجتي إلى القانون الأمريكي؛ فحكم بفسخ الزواج، فهل يُعتدُّ بهذا الفسخ شرعًا، وتصير بذلك أجنبية عني؟ وهل يجب عليَّ دفع خمسين ليرة ذهب مؤخر الصداق؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإنَّ تحاكم المسلمين عند تنازعهم يكونُ بالردّ إلى الله عز وجل والرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [النساء: 59]، ونهى وحذر سبحانه من سلوك سبيل المنافقين، الذين يرغبون عن حكم الشرع إلى غيره، فقال تعالى: (وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُـمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ وَإِنْ يَّكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُواْ أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَّحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُو بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُـمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَّقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [النور: 48-51].
ومن حق المرأة إذا لم ترغب في المقامِ مع زوجها، طلبُ الافتداء من زوجها بعوضٍ نظيرَ طلاقِها، وليس من شرطهِ إيقاعُهُ في المحكمةِ، بل يجوز أن يتراضى الزوجانِ عليه وينفذاه بينهما، ويكون لازمًا، قال خليل رحمه الله: “جَازَ الْخُلْعُ وَهْوَ الطَّلَاقُ بِعِوَضٍ وَبِلَا حَاكِمٍ” [مختصر خليل: 112].
وإذا عُقِد النكاح على صداق بعضه مؤجّلٌ بزمن غير معيّن، فسخَ العقد قبل الدخول، وثبت بعده، ويُنظر إلى الصداق المسمى الحلال وصداق المثل، فيثبت بالأكثر منهما، ولا يحسب الجزء المؤجل لأجل مجهول، قال الدردير رحمه الله عاطفًا على ما يفسد به النكاح: “(أَوْ) بِصَدَاقٍ (بَعْضُهُ) أُجِّلَ (لِأَجَلٍ مَجْهُولٍ) كَمَوْتٍ أَوْ فِرَاقٍ أَوْ قُدُومِ زَيْدٍ وَلَا يُعْلَمُ وَقْتُ قُدُومِهِ فَفَاسِدٌ، يُفْسَخُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ بِالْأَكْثَرِ مِنَ الْمُسَمَّى الْحَلَالِ وَصَدَاقِ الْمِثْلِ، وَلَا يُلْتَفَتُ لِلْمُسَمَّى الْحَرَامِ، فَيُلْغَى … (أَوْ لَمْ يُقَيَّدْ لِأَجَلٍ) بِزَمَنٍ بِأَنْ قِيلَ: الْمُعَجَّلُ كَذَا وَالْمُؤَجَّلُ كَذَا، وَلَمْ يُبَيَّنِ الْأَجَلُ” [الشرح الصغير: 2/442].
عليه؛ فإن كان الحال كما ذكر، فالتفريق الواقع من القضاء الأمريكي غير معتدٍّ به شرعًا، في حلِّ العصمة الثابتة بنكاحٍ صحيحٍ؛ لأنه تحاكم لما يخالفُ الشريعةَ الإسلاميةَ وأحكامها، وللزوجة إن أرادت الفراق أن تخالع زوجها على ما يتفقانِ عليه، فإنْ كان الزوج لا يرغبُ في المخالعةِ فلا أحدَ يجبرهُ على الفراق إلا إذا كانت الزوجة متضررة من البقاء معه ورفعت أمرها إلى القاضي الشرعي أو جماعة المسلمين في المركز الإسلامي تطلب الطلاق للضرر، فلمن له هذه الصفة أن يطلق على الزوج للضرر إذا ثبت عنده، قال الصاوي رحمه الله: “فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاكِمٌ فَجَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ الْعُدُولُ يَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ، وَفِي كُلِّ أَمْرٍ يَتَعَذَّرُ فِيهِ الْوُصُولُ إلَى الْحَاكِمِ الْعَدْلِ، وَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ كَافٍ” [بلغة السالك: 2/745]، وأما مؤخر الصداق الذي تستحقه الزوجة فهو خمسون ليرة، يجب على الزوج دفعه حالًّا؛ لأن الظاهر أن العرف في بلاد العقد جعلُ مؤخر الصداق خمسين ليرة، سواء أُجِّل بأجل معلوم أو مجهول، فليس في أذهان العاقدَين أن المهر المؤجل لو كان إلى أجل معلوم سيكون مختلفًا عن العقد المكتوب مع جهالة الأجل، فالحامل على كتابة الأجل المجهول ليس إلا جهل الموثقين وليس الاختلاف بين ذكر الأجل وعدمه، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
عبد العالي بن امحمد الجمل
حسن بن سالم الشريف
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
06//ذي القعدة//1443هـ
06//06//2022م