بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (3114)
ورد إلى دار الإفتاء السؤال التالي:
بعد أن مَنَّ الله على المسلمين في مدينة (بولدر – ولاية كولورادو) بالولايات المتحدة، بأن اشتروا كنيسة قديمة، وحولوها إلى مسجدٍ، قبل عدة سنوات، وبعد أن وظفوا إمامًا حافظًا للقرآن الكريم مِن دولة ليبيا، يسعَى القائمون على المسجد اليوم إلى إزالة كلّ ما يتعلق بالديانةِ المسيحية من داخل الكنيسة، وبناء منبر ومحراب، مع غرفة صغيرة للإمام.
وقد تناقش القائمون على المسجد في مشروعية تشييد منبر من الخشب المزخرف، وبعض التفاصيل الأخرى. فنطلب من سماحتكم أن تُبدوا الرأيَ الشرعي في المسائل التالية:
1- هل يجوز أن يكون عدد درجات المنبر أكثر أو أقل من ثلاث درجات؟
2- هل يمكن أن تكون درجات المنبر من الخلف أو من الجانب، وليست في اتجاه المصلين؟
3- هل يجوز زخرفة المنبر بزخرفات خشبية لا تحتوي على كلام، وإنما من الطراز الأندلسي أو العثماني؟
4- هل يجوز بناء المنبر بحيث يقف الخطيب وأمامه حاجز (كأنه واقف في شرفة) بينه وبين المصلين؟
مع العلم أن الخلاف كان من باب أن ما ذكر أعلاه مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، بينما يرى البعض أنه من الواجب إتقان المسجد من الداخل، وتزيينه بما يجوز شرعًا؛ لأنّ المسجد ينظم برامج دعوية للنصارى داخله؛ ليتعرفوا على الإسلام والثقافة واللغة العربية، ولأن الزخارف والأعمال الخشبية وما يسمى (بالفن الإسلامي) يعظم في صدور النصارى، وينبهرونَ به، ويظهر لهم جانبًا من الثقافة الإسلامية، ونسأل الله أن يبارك في علمكم وعملكم. (مرفق تصميم المنبر لمزيد من الوضوح).
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فالمنبر مأخوذ من النبر، وهو الارتفاع، واتخاذه في المسجد للخطبة مستحب بالإجماع؛ لما جاء عن سَهْل بْن سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ رضي الله عنه قال: “أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى فُلاَنَةَ – امْرَأَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ: (مُرِي غُلاَمَكِ النَّجَّارَ، أَنْ يَعْمَلَ لِي أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ إِذَا كَلَّمْتُ النَّاسَ)، فَأَمَرَتْهُ فَعَمِلَهَا مِنْ طَرْفَاءِ الغَابَةِ” [البخاري:917،مسلم:544]، قال النووي رحمه الله: “أجمع العلماء على أنه يستحب كون الخطبة على منبر، للأحاديث الصحيحة التي أشرنا إليها، ولأنه أبلغ في الإعلام، ولأن الناس إذا شاهدوا الخطيب كان أبلغ في وعظهم” [المجموع:527/4].
فالغرض مِن اتخاذه هو الإسماعُ والإبلاغ ووضوح الرؤية، وذلك يحصل بارتفاعه، ولا يشترط أن يكون على هيئة معينة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قبل اتخاذ المنبر على جذع نخلة؛ قال ابن قدامة رحمه الله: “ويستحب أن يصعد للخطبة على منبر ليسمع الناس … وليس ذلك واجبا، فلو خطب على الأرض، أو على ربوة، أو وسادة، أو على راحلته، أو غير ذلك، جاز؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان قبل أن يصنع المنبر يقوم على الأرض” [المغني:70/2].
وكون المنبر النبوي ثلاث درجات، كما جاء في صحيح مسلم: (فَعَمِلَ هَذِهِ الثَّلَاثَ دَرَجَاتٍ)، لا يدل على المنع من الزيادة أو النقص إذا احتيج إليه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب على جذع نخلة عدة سنوات، فعرض عليه نجار رومي أن يصنع له شيئا يرتفع عليه، فكان ذلك، قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (كان المسجد مسقوفا على جذوع من نخل، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقوم إلى جذع منها) [البخاري:3585]، وفي رواية: (كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار، أو رجل: يا رسول الله، ألا نجعل لك منبرا؟ قال: إن شئتم) [البخاري:3584]، وفي حديث أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ يَوْمَ الجُمُعَةِ فَيُسْنِدُ ظَهْرَهُ إِلَى جِذْعٍ فِي المَسْجِدِ فَيَخْطُبُ النَّاسَ، فَجَاءَهُ رُومِيٌّ فَقَالَ: أَلَا أَصْنَعُ لَكَ شَيْئًا تَقْعُدُ عَلَيْهِ وَكَأَنَّكَ قَائِمٌ؟ فَصَنَعَ لَهُ مِنْبَرًا لَهُ دَرَجَتَانِ، وَيَقْعُدُ عَلَى الثَّالِثَةِ) [أحمد:21252].
ولو قلنا بالتقيد في عدد الدرجات، للزم التقيد أيضا بمادةِ صنعهِ، ونحو ذلك من التقيد بعرض الحيطان والأسقف ومادةِ بنائها، وغير ذلك، ولا قائل به، فهذا ونحوه من بابِ الوسائل، يباح منها كل ما كان مشروعا يوصل للمقصود على أفضل وجه، ونقل أهل التواريخ والسير أنّ مروان بن الحكم رحمه الله زاد في خلافةِ معاويةَ رضي الله عنه على منبرِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ستَّ درجاتٍ مِن أسفلِه، وقال: «إنَّما زِدْتُ فِيهِ حِينَ كَثُرَ النَّاسُ»، ولم يعلم أن أحدًا من علماء الصحابة أو التابعين أنكر عليه؛ قال البرزلي رحمه الله: وإنما ذكرتُ ذلك؛ لأن بعض الجهلة كسر ما زاد على ثلاثة أدراج من منبر، فرددت عليه بأمور كثيرة، وأن المنبر ما هو إلا على قلة الناس وكثرتهم، مثل منبر القيروان وغيرها من سائر المنابر، التي جرى عليها عمل المتقدمين والمتأخرين من سائر القرى والأمصار، ومعاوية من فضلاء الصحابة، وكاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصهره، ومنزلته مشهورة معروفة، وقد أحدث السلف أشياء لم تكن في الزمن الأول؛ كالجمع على المصحف، والنقط والشكل، وتحزيب القرآن، والقراءة في المصحف في المسجد، أول من أحدثها الحجاج، وتحصير المساجد في موضع التحصيب، وتعليق الثريات فيها للاستصباح بها، ونقش الدراهم والدنانير أول من أحدثها عبد الملك، والناس متوافرون” [شرح المنهج المنتخب للمنجور:690/2].
وعليه؛ فيجوز أن يكون المنبر على هيئة شرفة عالية أو منخفضة حسب الحاجة، أو له درج مقابل للمصلين، أو على اليمين أو الشمال، وعدد درجاته ثلاثة أو أكثر أو أقل، عالية أوواطئة، أو غير ذلك مما يحصل به المقصود، ومن اقتصر على ثلاث درجات، ناويا التأسي بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يؤجر على نيته، ومن خالف لا يأثم، ولا يسمى مخالفا للسنة، ويكره أن يكون المنبر على هيئة تؤدي إلى قطع الصفوف، وتأخذ حيّزًا من الصف.
أما زخرفة المنبر فيكره الكثير منها الذي يشغل؛ لأنه يلهي المصلي، ويصرف المستمع عن الإنصات لكلام الخطيب، وهو أيضا جزء من زخرفة المساجد المنهي عنها؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أمرت بتشييد المساجد)، ثم قال ابن عباس: “لتزخرفُنَّـها كما زخرفت اليهود والنصارى” [أبوداود:448]، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لباني المسجد: “أكنَّ الناسَ من المطر، وإياك أن تُحَمِّر أو تُصَفِّر فتفتن الناس” [البخاري معلقا، باب: بنيان المسجد]، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
أحمد محمد الكوحة
أحمد ميلاد قدور
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
07/صفر/1438هـ
07/نوفمبر/2016م