المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (337)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (337)
[سورة الأنعام:108-110](وَلَا تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدۡوَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمٖۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمۡ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرۡجِعُهُمۡ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ)(108)
جاء في سبب نزول هذه الآية عَنْ قَتَادَةَ رحمه الله قَالَ: “كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسُبُّونَ أَوْثَانَ الْكُفَّارِ فَيَرُدُّونَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَنَهَاهُمُ اللهُ أَنْ يَسْتَسِبُّوا لِرَبِّهِمْ”( )، وذلك سدًّا لذريعة الفساد، والآية أصلٌ في سد الذرائع، وهو أصل اشتهر به المالكية، والخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ولمن بعدهم من المسلمين؛ لأن الطاعة إذا أدت الى مفسدة راجحة تُركت، فإن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
والذرائع جمع ذريعة، ومعناها الوسيلة، فوسيلة الحرام محرمة، ووسيلة الصلاح مشروعة، والذريعة كما أنها إلى الحرام تسدُّ، فإنها إلى الحلال تفتح وتشرع، وسد الذرائع معناه أمر ظاهره الجواز يتوصل منه إلى محظور، وهي تتنوع إلى ثلاثة أنواع؛ نوع متفق على سده ومنعه، كحفر بئر في طريق المسلمين، وبيع العنب لمن يعصرها خمرا، ونوع متفق على عدم منعه، مثل منع زراعة العنب خشية أن يستعمل في عصر الخمر، ومنع بناء المجمعات السكنية خشية اختلاط الناس والوقوع في الزنا، ونحو ذلك من الذرائع البعيدة، والثالث ذرائع موضع اجتهاد مختلف فيها، مثل صور بُيوع العينة والآجال.
وقوله (وَلَا تَسُبُّوا) من السب وهو الشتم، والنهي فيه للتحريم، إذا كان السب جَهْرًا يخشى منه العدوان على الله بالسب.
وقوله (الذين يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي لا تسبوا الأوثان عند الذين يدعونها آلهة، يعبدونها من دون الله (فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا) ظلما وعدوانا على الله، ثأرًا لآلهتهم (بِغَيْرِ عِلْمٍ) يفعلون ذلك جهلا بالله تعالى، وما يجب له من التنزيه وصفات الكمال، وهذا لا يمنع أن بعضهم على علم بما يرتكب من عدوان، ولكن لعدم عملهم وانتفاعهم بما علموا كانوا هم والجاهل سواء.
(كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) التزيين للشيء تحسينه للناظر، ولو لم يكن في ذاته حسنًا، والمعنى: مثل ذلك التزيين للباطل والميل إلى الشرك – المذكور من قوله ﴿وَجَعَلُوا۟ لِلَّهِ شُرَكَاۤءَ ٱلۡجِنَّ وَخَلَقَهُمۡ﴾ إلى أن انتهى بهم إلى العدوان على الله في قوله (فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) – مثل ذلك التزيين والخذلان وقع للأمم الماضية، وقد أخذهم الله في الدنيا بسوء أعمالهم، وفي الآخرة ينتظرهم حساب عسير، وهو وعيد لكل من سلك مسلكهم (ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ) ثم الناس جميعًا عند البعث والحساب يرجعون إلى ربهم (فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) فيوفيهم جزاء أعمالهم، إنْ خيرًا فخيرٌ، وإن شرا فشر.
(وَأَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَئِن جَآءَتۡهُمۡ ءَايَةٞ لَّيُؤۡمِنُنَّ بِهَاۚ قُلۡ إِنَّمَا ٱلۡأٓيَٰتُ عِندَ ٱللَّهِۖ وَمَا يُشۡعِرُكُمۡ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتۡ لَا يُؤۡمِنُونَ)(109)
(جَهْدَ) مصدر في موضع الحال، أي جاهدين في الحلف مؤكدين أيمانهم وبالغين فيها غاية الجهد، حتى إنّ من يسمعهم يحلفون لفرط ما بذلوه من جهد في أيمانهم يظن أنهم صادقون، يقولون (لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا) واللام في (لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ) لام القسم، دالة على قسم محذوف، تسمى موطئة للقسم، و(آيَةٌ) معجزة خارقة للعادة غير القرآن مما اقترحوه، فالقرآن لا يريدونه، ولا يؤمنون به، وإنما يريدون معجزة محسوسة، مثل ما طلبه قوم موسى عليه السلام من ضرب الحجر بالعصا؛ ليخرج منه الماء، أو ما طلبه قوم صالح من خروج ناقة من الصخرة.
فزعموا مؤكدين زعمهم بالقسم غاية التأكيد أنه ما يمنعهم من الإيمان إلا تأخر مجيء هذه المعجزة التي طلبوها، ولئن جاءتهم هذه الآيات الخارقة للعادة كنزول الملائكة عليهم من السماء لآمنوا؛ والله يعلم عدم صدقهم، وأنهم كاذبون لا يؤمنون حتى لو أجيبوا وجاءتهم الآية، فلا يزالون معاندين مكذبين، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بقوله (إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ) أي: المعجزات والخوارق هي في ملكه، وتحت سلطانه وإرادته، يتصرف فيها كما يشاء.
وهي حصرا من عند الله، لا من عند غيره، هو الذي يعلم وقتها وما يختاره منها، وليست المعجزات تنزل على أهواء ورغبات الناس، ولو أجيبوا ونزلت المعجزة بطلبهم لنزلت مقرونة بالعذاب لمن كذبها، قال تعالى: ﴿إِن نَّشَأۡ نُنَزِّلۡ عَلَیۡهِم مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ ءَایَةࣰ فَظَلَّتۡ أَعۡنَٰقُهُمۡ لَهَا خَٰضِعِینَ﴾( ) فإنما في قوله (إِنَّمَا الْآيَاتُ) أداة حصرٍ قصَرت نزول الآيات والتحكم فيها على مشيئة الله وحده.
والخطاب في (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ) للمؤمنين، ويجوز أن يكون للكافرين، وتؤيده قراءة (لَا تُؤْمِنُونَ) على الخطاب للكافرين.
و(مَا) في (وَمَا يُشْعِرُكُمْ) يصح أن تكون استفهامية، و(يُشْعِرُكُمْ) من الشعور، وهو العلم بما من شأنه أن يكون خفيّا، ويتوصل إليه باستنباط وتأمل، أي: ما شعوركم وعلمكم بالحال التي يكون عليها الكفرة؟
الجواب يكون ابتداء كلام أنهم إذا جاءتهم الآية (لَا يُؤْمِنُونَ) ويساعد على هذا قراءة (إِنَّهُمْ لَا يُؤمِنُونَ) بكسر الهمزة، فإنها ابتداء كلام.
والواو في قوله (وَمَا يُشْعِرُكُمْ) على هذا تكون للعطف على قوله (قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ) ويكون الوقف على (يُشْعِرُكُمْ) كما في وقف الهبطي.
ويصح أن تكون (مَا) نكرةً موصوفةً، وتكون الواو للحال، بمعنى: شيء شعرتم به وتعلمونه من الحال التي يكونون عليها حتى لو جاءتهم المعجزة، أنهم لا يؤمنون لما هم عليه من العناد والمكابرة، ولما علمتموه كذلك من القرآن في قوله: ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ حَقَّتۡ عَلَیۡهِمۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا یُؤۡمِنُونَ وَلَوۡ جَاۤءَتۡهُمۡ كُلُّ ءَایَةٍ حَتَّىٰ یَرَوُا۟ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِیمَ﴾( )، وعلى هذا المعنى لا يكون الوقف على قوله (وَمَا يُشْعِرُكُمْ).
ومتعلِّقُ فعل (يُشْعِرُكُمْ) محذوف، دل عليه قوله (أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ) تقديره: وما يشعركم ويعلمكم بالحالة التي يكون عليها الكفرة؟ على أن الخطاب للمؤمنين.
وعلى أن الخطاب للكفار يكون المعنى وما يشعركم بالحالة التي تكونون عليها؟ الجواب أنكم لا تؤمنون، وفي الآية التفات من الغيبة في قوله (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ) إلى الخطاب في قوله (وَمَا يُشْعِرُكُمْ).
(وَنُقَلِّبُ أَفۡـِٔدَتَهُمۡ وَأَبۡصَٰرَهُمۡ كَمَا لَمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهِۦٓ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَنَذَرُهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ)(110)
جملة (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ) تؤكد وتفصل العلة في عدم إيمانهم، وهي عطف على قوله (أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ)
والمعنى: نقلب عقولهم فنجعلها مترددة متحيرة، ونصرفها عن الانتفاع بالأدلة العقلية، ونقلب أبصارهم فنجعلها حائرة، غير قادرة على رؤية الحق، والانتفاع بالمعجزات الحسية، فهي متقلبة، ومتنقلة من حيرة إلى حيرة، ومن تلبيس وشبهة إلى شبهة أخرى، وهكذا دواليك، لا تعرف للحق طريقا، حتى يكون حالهم – بعد نزول ما طلبوه من المعجزات من عدم الإيمان – كحالهم أول مرة قبلها، ونتركهم في طغيان مكابرتهم وعنادهم في عمى، سائرين على غير هدى.
فتقليب أفئدتهم وأبصارهم كناية عن الضلال والحيرة، وانتكاس عقولهم وعَمَى بصائرهم، فلا تهتدي، والكاف في (كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ) للتشبيه، وضمير (بِهِ) يعود إلى القرآن، أي يكون حالهم بعد إنزال المعجزة التي طلبوها هو عدم الهداية والإيمان بالقرآن، مثل حالهم أوّل مرة قبل نزولها عليهم.
ويصح أن يكون تقليب أفئدتهم وأبصارهم كناية عن تقليب ذواتهم وأجسادهم في النار، وتكون الكاف في قوله (كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ) للتعليل، كما في قوله: ﴿وَٱذۡكُرُوهُ كَمَا هَدَىٰكُمۡ﴾( )، والإضافة في (أفئدتهم وأبصارهم) من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في النار لأجل أنهم لم يؤمنوا، وذُكّر أفعلُ التفضيلِ (أَوَّلَ)، ولم يؤنث لتأنيث (مَرَّة)؛ لأن أفعل التفضيل إذا أضيفَ إلى نكرة لزمَ التذكيرُ والإفرادُ.
(وَنَذَرُهُمْ) أي نتركهم ونسلبهم التوفيق، والطغيان: مجاوزة الحدِّ في كلِّ شيء، أي ونتركهم وندعهم في ضلال واستكبار بلغوا فيه الغاية وتجاوزوا فيه الحدّ ونسلبهم التوفيق فيبقون يضربون في عمى لا يهتدون.
فَـ(يَعْمَهُونَ) أي يسيرون في عمى على غير هدى، والعمه في القلوب كالعمَى في الأبصار، إلّا أن الأبصار توصف بالعمى والقلوب توصف به.