المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (340)
المنتخب من صحيح التفسير - الحلقة (340)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (340)
[سورة الأنعام:118-120]
(فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ إِن كُنتُم بِـَٔايَٰتِهِۦ مُؤۡمِنِينَ)(118)
ما تقدّمَ كانَ في محاجة المشركين، وعندما أقيمت عليهم الحججُ على مكابرتهم في الإقامة على الشرك وعنادهم، بدأوا يثيرون بعضَ الشُّبه على المسلمين، عندما يئسوا من ردِّهم عن دينهم، من هذه الشبه – بعد أن يئس المشركون أن يردوا المسلمين عن دينهم – تحولُ شياطينِ الإنس والجن إلى محاولة تشكيك المسلمين في صحة دينهم، وإلقاء الشبه عليهم بأنه متناقض، من ذلك: أنّ أناسًا مِن المشركين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الشاةِ إذا ماتتْ، مَن قتَلها؟ قال: الله، فقالوا له: أنأكلُ ما قتلناه وتقتله الكلاب والصقر، ولا نأكل ما قتله الله؟! فقد خرج التِّرْمِذِيُّ عن ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ: (أَتَى أنَاس النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَنَأْكَلُ مَا نَقْتُلُ وَلَا نَأْكُلُ مَا يَقْتُلُ اللهُ؟! فَأَنْزَلَ اللهُ: ﴿فَكُلُوا۟ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَیۡهِ﴾)( ).
فذكر الله لهم في هذه الآية التشريع الذي يرد على ما توهموه، من أنّ المسألة ليست قائمة على مجرد خروج روح الحيوان، بل قائمةٌ أيضًا على العبادة والتوحيد والهدى، والخروج من ضلالات الشرك في ذبائحهم، وما جرى مجراه من التقرب إلى الله، فقال (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ).
والأمر في قوله (فَكُلُوا) للإباحة، والخطاب للمسلمين، وقوله (مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) هو أن يقول الذابح وقت الذبح أو النحر: بِسْم الله، لا قبله ولا بعده، وهو ما أفادته (عَلَيْهِ) الدالة على التمكن من القول في ذلك الوقت؛ لأنه عرِف من عادة العرب أنهم كانوا يذبحون إلى النصب والحجارة التي تشبه الأوثان التي يعبدونها، ويهلون وقت الذبح باسم ما يريدون التقرب إليه من معبوداتهم، مِن الجن أو الأوثان أو غير ذلك، ولذا أُمروا بذكر اسم الله في نفس الوقت الذي كانوا يعلنون فيه بالشرك على الذبائح.
ومفهوم الآية أنه لا يحلُّ الأكلُ مما ذكرَ عليه غيرُ اسم الله، كما جاءَ التصريح به في الآية بعدها، وما لم يذكر عليه شيء عند الذبح، إن كان الامتناع عمدًا، تفاديًا لذكر اسم الله فلا يحل أكله؛ لأنّه يكون داخلا في النهي، وإن كان عدم الذكر نسيانا، غير مقصودٍ منه إبعاد اسم الله عن الذبيحة؛ فيجوز أكله عند مالك؛ لأنه لا تكليفَ مع النسيان.
وقوله (إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ) خوطبوا بذلك إثارة لجذوة الإيمان في القلوب، حتى لا تضيع فريضة التقرب إلى الله عند الذبح بالتساهل فيها أو الإهمال.
(وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تَأۡكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا لَّيُضِلُّونَ بِأَهۡوَآئِهِم بِغَيۡرِ عِلۡمٍۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُعۡتَدِينَ)(119)
الخطابُ في (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) للمسلمينَ، كالخطاب في الآية التي قبلها (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) وعطفت عليها لتقرير معنى الفرق بين ما ذكي وذكر اسم الله عليه، وبين الميتة التي ذكر المشركون أنها أولى بالحل، مع التنبيه على العلة التي تظهر الفرق، وهي ذكر اسم الله على ما أحل، وعدم ذكره على ما حرم.
والتأكيد على الفرق بذكره مرتين بأسلوب الإثبات والنفي؛ لئلا تروج شبهة التسوية بين الميتة والمذكاة على بعض المسلمين، ولئلا يبقى مجالٌ للبس بين ما أُحلَّ وما حُرمَ، كما قال تعالى (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) أتمَّ تفصيل فالزموه.
والاستفهام في قوله (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) إنكاري بمعنى النفي، أي: ليس لكم الأكل منه، وقوله (أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) معناه أيضًا النفي، أي عدم الأكل، ونفي النفي إثبات، فيصير المعنى: كلوا مما ذكر اسم الله عليه.
وجملة (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) حالية، أي كلوا مما ذكر اسم الله عليه، ولا تأكلوا مما ذكر عليه غيره، والحال أن الله بين لكم ما حرمه عليكم بيانًا متتابعًا متتاليًا، في الأوقاتِ المختلفةِ، بمقتضى الحاجة، بعضه بُيِّنَ وفُصّلَ بالفعل، وبعضُه سينزل، ولتحقُّقِه -حتى كأنه وقعَ بالفعلِ- عبر عن جميعِه بالماضي (فصّل)، وقال (فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ)، وقال (ما حرم عليكم) ولم يقل ما أحلَّ لكم؛ لأن المحرمات محصورة، وتحديدها ممكن، وما عداها كله حلال، فالحلالُ ليس بمحصورٍ، فلا يحتاج إلى تفصيل، وقوله (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) أي: هذا التفصيلُ لما حرّم عليكم عند الاختيار، أما عند الاضطرار إلى تناول المحرم، بقيام الضرورة بمعناها الشرعي – وهو أن عدم تناول المحرم يؤدي إلى الهلاك الكلي أو الجزئي – فإنّ الضرورة ترفع الحظر، ويحل محله الإذن والرخصةُ، إلى أن ترتفع الضرورة.
وإنّ كثيرًا من الناس ليَضلونَ أنفسهم، ويضلون غيرهم أيضًا بأكل الحرام، كما لَبّس المشركون على المسلمين في قياس الميتة على المذكاة، وقياس الربا على البيع، والباء في (بِأَهْوَائِهِمْ) للسببية، سببُ ضلالهم وإضلالهم اتباع الهوى وما تشتهيه أنفسهم، بغير دليل ولا برهان، ولذا قال (بِغَيْرِ عِلْمٍ)، فالباء في (بِغَيْرِ عِلْمٍ) للملابسة، متلبسين في ضلالهم بالجهل، عن غير علم (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ).
(وَذَرُواْ ظَٰهِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡسِبُونَ ٱلۡإِثۡمَ سَيُجۡزَوۡنَ بِمَا كَانُواْ يَقۡتَرِفُونَ)(120)
الخطاب في (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ) للمشركين ومَن يفعل فعلهم من أهل المعاصي من المسلمين، أي اتركوا الإثم ظاهره وباطنه واجتنبوه، و(ظَاهِرَ الْإِثْمِ) ما يراه الناس من آثام؛ كعبادة الأصنام وتحليل الميتة وتحريمِ السوائب وشربِ الخمر وأكل الربا (وَبَاطِنَهُ) ما يكيدونه للدين في الخفاء؛ من الصد عنه والعداء للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ومن أعمال النفاق في الكيد للمسلمين التي يخفونها ولا يظهرونها.
وقوله (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ) إخبار عن مصير الذين يرتكبون الإثم المذكور ونحوه، وقع موقع التعليل مما قبله من الأمر باجتناب الإثم ظاهره وباطنه؛ أي اجتنبوا الإثم وابتعدوا عنه، لأن من لم يجتنبه سيجزى عما ارتكبه من الإثم وعن كل أعماله.
وأُتِيَ بالتعليل في آخر الجملة ليدل على أن هذا المصير والجزاء يعمهم ويعم غيرهم، مِن كل من يكتسب إثما، واكتساب الإثم فعله وارتكابه.
والسين في قوله (سَيُجْزَوْنَ) للتأكيدِ وتحقّقِ وقوع الجزاء، و(مَا) اسم موصول، ويقترفون: يرتكبون، والاقترافُ إذا أُطلق ينصرف إلى عمل الإثم والشرّ، والعائد على الموصول محذوف، والتقدير: بما كانوا يقترفونه.