طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (353)

المنتخب من صحيح التفسير - الحلقة (353)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الحلقة (353)

[سورة الأنعام:158-159] (هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ أَوۡ يَأۡتِيَ رَبُّكَ أَوۡ يَأۡتِيَ بَعۡضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَۗ يَوۡمَ يَأۡتِي بَعۡضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفۡسًا إِيمَٰنُهَا لَمۡ تَكُنۡ ءَامَنَتۡ مِن قَبۡلُ أَوۡ كَسَبَتۡ فِيٓ إِيمَٰنِهَا خَيۡرٗاۗ قُلِ ٱنتَظِرُوٓاْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ)(158)
بعد أن ذكر الله تعالى توعّده للذين يصدِفون ويُعرضون عن آياته ويكذبون القرآن، ويحملون غيرهم على تكذيبه – بسوء العذاب، توعدهم بعذاب آخر إذا لم يبادروا إلى الإيمان، يأتيهم به الله تعالى وتأتيهم به ملائكته، فقال (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ) أي ما الذي ينتظره المشركون ولا يبادرون إلى الإيمان، بعد أن أقيمت عليهم الحجج والبراهين بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، ونزول القرآن، ليس لهم ما ينتظرونه بعد هذا إلا إتيان الملائكة، ونزولها عليهم بالعذاب، كما وقع لهم يوم بدر في قوله تعالى: ﴿إِذۡ یُوحِی رَبُّكَ إِلَى ٱلۡمَلَٰۤئِكَةِ ‌أَنِّی ‌مَعَكُمۡ فَثَبِّتُوا۟ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ سَأُلۡقِی فِی قُلُوبِ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ ٱلرُّعۡبَ فَٱضۡرِبُوا۟ فَوۡقَ ٱلۡأَعۡنَاقِ وَٱضۡرِبُوا۟ مِنۡهُمۡ كُلَّ بَنَانࣲ﴾( )، وإما بنزولها لقبض أرواحهم، تضرب وجوههم وأدبارهم، ليواجهُوا مصيرهم.
أم هل ينتظرون يوم يأتي ربك في القيامة لفصل الخطاب، أو يوم يأتيهم الله بعذاب من عنده، فإنه يكون شديدًا عليهم، لا قِبل لهم به، كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما( )؛ لأنه من عند الله بلا واسطة، فـ(هل) في (هَلْ يَنْظُرُونَ) للاستفهام الإنكاري، في معنى النفي، بدليل الاستثناء بعدها، و(أَوْ) في قوله (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) بمعنى الواو، غير مانعة للجمع أي غير مانعة لجمع ما قبلها بما بعدها من العذاب، أو للتقسيم، مثل: الكلمة اسم أو فعل أو حرف؛ لأن كلا العذابين المنسوبين إلى الله وإلى الملائكة هما من عذاب الله وكلّه آتِيهم لا محالة.
والآيات في قوله (بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) الخوارق التي تنذر بالعذاب، مثل طلوع الشمس من مغربها، أو العذاب نفسه، وقوله (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) أي من مثل طلوعُ الشمس من مغربها، فهي التي لا ينفع عندها إيمانُ كافرٍ ولا توبةُ مذنب، ففِي صحيح مسلم عن أبي هُريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، تَابَ اللهُ عَلَيْهِ)( )، وفي الصحيحين: (لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا رَآهَا النَّاسُ آمَنَ مَنْ عَلَيْهَا، فَذَاكَ حِينَ: {لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ})( ).
ويُؤَول ما ظاهره يخالف هذا في تفسير قوله (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) من مثل ما في صحيح مسلم: (ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجْنَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الْأَرْضِ)( )، فإنه يدل على أن التوبة لا تقبل عند نزول الدجال وخروج دابة الأرض، فتحمل هذه الرواية التي ذكرت ثلاث آيات على آخر الآيات حدوثاً، وهي الطلوع الذي عينه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه؛ لأن طلوع الشمس من مغربها هو المتحَقق به عدم قبول التوبة، بدليل ذكر خروج الدجال في الأحاديث الأخرى التي تخالفه، وخروج الدجال قبل نزول عيسى عليه السلام، ولا شك أن الأعمال عند نزول عيسى عليه السلام تقبل؛ لأنه ينزل ليقيم العمل بالشريعة، وما جاء في عدم قبول الأعمال بلفظ إحدى ثلاث يحمل أيضًا على الآية التي عينها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الصحيحين، وهي الطلوع، لأنها أعظمها.
وقوله (نَفْسًا) نكرة في سياق النفي، تعمّ كلّ نفس، وقوله (لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) صفة تخصص هذه النفس التي لا ينفعها إيمانها، وعدم النفع في قوله (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا) هو نفع الآخرة، أما في الدنيا فالناس في ذلك الوقت كلهم يهلكون، المؤمنون وغير المؤمنين، فالمعنى أن النفس الكافرة التي لم تؤمن وأرادت الإيمان، إذا طلعت الشمس من مغربها لا ينفعها إيمان، ولا تقبل منها توبة في ذلك الوقت؛ لأنه إيمان المضطر، إيمان معاينة العذاب، وليس من الإيمان بالغيب الذي أمر الله به، وهو معنى قوله: ﴿فَلَمَّا ‌رَأَوۡا۟ ‌بَأۡسَنَا قَالُوۤا۟ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥ وَكَفَرۡنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشۡرِكِینَ﴾( ).
وقوله (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) أي لا ينفع نفسا لم تؤمن إيمانُها ولا ينفع نفسا عاصية لم تعمل وتكسب خيراً توبتُها، فمعناه أن النفس المؤمنة العاصية، التي لم تعمل خيرًا من الصالحات، لا تنفعها التوبة ولا أعمالها الصالحة في ذلك الوقت، والأمر في قوله (قُلِ انْتَظِرُوا) للتهديد، يقال لهم: انتظروا أجلَ عذابكم الذي توعدكم اللهُ إنْ لم تؤمنوا، فإنَّا منتظرون ما وعدَنا ربنا من الخير والبِشارة، واثقونَ بوقوعه.
(إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗا لَّسۡتَ مِنۡهُمۡ فِي شَيۡءٍۚ إِنَّمَآ أَمۡرُهُمۡ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ)(159)
الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ هم الذين اختلفوا عليه، إِما بالإعراض عن الدين القويم دين الإسلام بالكلية، واختراع دين باطل اختلفوا فيه، كما فعل المشركون والعرب في الجاهلية، تَرَكُوا دين الحنيفية الذي توارثوه عن أبيهم إبراهيم عليه السلام، ثم اختلفوا؛ فمنهم من عبد الأوثان، ومنهم مَن عبدَ الكواكب، ومنهم من عبدَ الملائكة، والذين عبدوا الأوثان اختلفُوا على أوثانهم باختلافِ قبائلهم.
وإمّا بالتفرّق والاختلاف في أصول الدين القويم، اختلافًا أفسدوا به أصله، كاختلافِ أهل الكتاب في دينهم، الذي أدى إلى تحريفه، والإيمان ببعضِه دون بعض، وهذا محَذّرٌ منه المسلمونَ أيضًا، لأنه خلاف الوحدة التي أمرهم الله تعالى بها، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةࣰ وَٰحِدَةࣰ وَأَنَا۠ ‌رَبُّكُمۡ ‌فَٱعۡبُدُونِ﴾( ).
ومنه ما وقعتْ فيه الفرق الضالة، التي انتسبتْ إلى الإسلام ومرقَت منه، باختلافٍ عليه أخرجها منه، كالباطنية والرافضة وغيرهما.
ولا يدخل في هذا الاختلاف المذمومِ المحذّر منه في الآية اختلافُ الاجتهاد بين العلماء في الفروع، المنضبط بقواعد الاجتهاد، فذلك مأمور به، قال تعالى: ﴿وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰۤ أُو۟لِی ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِینَ ‌یَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡ﴾( ).
وقوله (شِيَعًا) جمع شيعة، الجماعة التي يجمعها فكر أو معتقد، وقوله (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أي ليسوا منكَ، ولا أنتَ منهم، سلكوا غير سبيلك، فلا صلةَ بينك وبينهم، وما يضرونك من شيء، فبغيُهم على أنفسهم، وأمرهم إلى الله، فقد بلَّغت وأديت ما عليك، ولو شاء الله لهداهم، والله محصٍ أعمالهم، وسينَبِّئُهُمْ عند الحساب والجزاء بكل ما كَانُوا يَعملُونَ.
فالله لا تخفى عليه من أعمالهم خافية، فلا يغيبُ منها شيء، وإخبارهم بها لإقامة الحجة عليهم قبل وقوع العذابِ بهم.

 

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق