طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (362)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الحلقة (362)

[سورة الأعراف: 32-34]

(قُلۡ ‌مَنۡ ‌حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِۚ قُلۡ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا خَالِصَةٗ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ)(32)

الخطاب في قوله (قل) للنبي صلى الله عليه وسلم، أمره الله أن ينهى الناس عن التكلّف والتعمّق في الدين بتحريم ما أحلّه الله لهم، والخطاب -وإن كان أصله في ذم المشركين الذين التزموا التعريَ في الحرم، وتحريمَ اللباس على أنفسهم ـ فهو عام في الإنكار على كل من حرم الزينة التي أحلها الله من اللباس، وما أحله من أكل الطيبات من المأكل والمشرب والنكاح، وزعم أن تركها ورعٌ وزهدٌ وعبادةٌ تقرّب إلى الله، كما يفعله من لا يلبس إلا المُقطَّع والرث المتسخ من الثياب، ويهمل نفسه، وكثيرٌ من العامة يعتقدون أن الله يحبُّ هذا، وأنه يدل على صلاح صاحبه وزهده، وهذا ليس بشيء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ)([1]) .

فالزهد لا يكون بصورة الثياب الملبوس، وإنما بالعمل وبما في القلوب، وكذلك هم يَغفُلون عن هذه الآية وأمثالها من القرآن، التي تنهى المسلمين على تحريم الطيبات، ومن الجهل وقلّة العلم يرون ذلك التحريم تعبدا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس الحلة ويتجمل للوفود والجمعة.

والضابط في اللباس هو ما جاء عن ابن عباس: (كُلْ مَا شِئْتَ، وَالبَسْ مَا شِئْتَ ـ أي من الحلال ـ مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ: سَرَفٌ، أَوْ مَخِيلَةٌ) ([2])، وقد رَدَّ النبي صلى الله عليه وسلم التبتل على النفر من أصحابه الذين سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَقَالَ: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا؟ لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي)([3])، فالاستفهام في قوله (مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) إنكاري، والزينة ما يُتزين به من اللباس وغيره، وإضافة الزينة إلى الله بمعنى (مِن)، أي الزينة الممنوحة من الله، الَّتِي أنشأ الله أصلها وتفضل بها على عباده فإن ابتداء ومنشأ ذلك كلّه منه.

والطَّيِّبَاتِ: اللذائذ ضد الخبائث، وهي الحلال من الرزق، و(مِن) في (مِنَ الرِّزْقِ) بيانية، وفي الآية دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة؛ لأنها أنكرت على من حرَّمَ الطيباتِ مِن غير دليلٍ ولا برهان.

وقوله (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) هو كالجواب من الله على السؤال المتقدّم في قوله (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) لأنهم لا يجدون جوابًا لما هم حَرَّموه على أنفسهم، وليس لهم عليه دليل ولا برهان، فتولى الله بنفسه الجواب فقال (قُلْ هِيَ) أي الزينة التي أحلها الله والطيبات، للذين آمنوا، في الحياة الدنيا مُشْتَرَكة بينهم وبين غيرهم، أمَّا في الآخرة فالطيبات والزينة بأنواعها خالصةٌ للمؤمنين، لا يشاركهم فيها أصحاب الجحيم، و(خالِصَةً) صافية ومُخَلَّصة لكم دون غيركم، وهي على قراءة النصب منصوبة على الحال، وعلى قراءة الرفع خبرٌ ثان للضمير (هي) في قوله (هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا).

وقوله (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ) أي: مثل هذا التفصيل البيِّن الواضح الذي بيَّنَّا لكم به حكم أخذ الزينة وما أُحِل لكم من الطيبات، فصلْنا ونفصلُ الآيات والدلائل الدالة على التوحيد وسائر الأحكام.

والكاف في (كَذَلِكَ) للتشبيه، والإشارة بـ(ذَلِكَ) للتفصيل والبيان المتقدّم للأحكام، و(الآيَاتِ) الأدلة الدالة على وجوب الإيمان، واللام في قوله (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) للتعليل، أي لأجل أن ينتفع بتفصيل الآيات الذين أرادوا أن يعلمُوا ما جاءهم عن ربهم، فيؤمنوا ويصدقُوا، ويُحرَمَ منه مَن أعرض عما جاءه من العلم، فجحد وكذّب.

(قُلۡ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلۡإِثۡمَ وَٱلۡبَغۡيَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَأَن تُشۡرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَٰنٗا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ)(33)

المعنى: إن الذي حرمه الله عليكم هو الفواحش والآثام؛ ما ظهر منها كالوأد والخمر، وما بطن كالزنا والسرقة، وحرم عليكم البغي والظلم والتعدي.

وأن تشركوا به إشراكًا ليس عندكم فيه سلطان ولا حجة، أي أنه إشراكٌ لا وجود للحجّة عليه أصلًا، فقيد ما لم ينزل به سلطان لبيان الواقع لا مفهوم له، فلا وجود لشرك عليه حجة، وهو على حدِّ قولهم: لا تَرى الضبَّ بها ينجَحِر، أي: لا وجود للضبِّ أصلًا في تلك الأرض، لا أنه موجودٌ غير أنه لا يدخل الجحر.

ومما حرمه الله تحريمًا غليظًا التقوّلُ على الله بغير علم، كالشركِ والفواحشِ التي زعمُوا أن اللهَ أمرهم بها.

وهذا الإخبار في (إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ…) وإنْ جاءَ للردِّ على ما كانَ عليه أهل الجاهلية، فإنه  عام، يحذرُ المسلمين من ذلك، فمن الإثم الشديد التقول على الله بالحلال والحرامِ بغير علم، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا۟ لِمَا ‌تَصِفُ ‌أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا ‌حَلَٰلࣱ ‌وَهَٰذَا ‌حَرَامࣱ لِّتَفۡتَرُوا۟ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۚ﴾([4])، وقد بينت الآية المحرمات بطريق الحصر في قوله (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ …) وهو حصرٌ إضافي لا حقيقي، فكأن هذه المحرمات في الآية لشدتها وجرأتهم عليها، ليس هناك آثامٌ غيرها، مع أنَّ الآثامَ غيرها كثيرٌ.

فـ(الفواحش) الآثام الشنيعة الزائدة في القبح، سُميت بذلك لفحشها ونكارتها، وعلى رأسها البغاء والمخادنة (وَالْإِثْمَ) عموم الذنوب وهو من عطف العام على الخاص (وَالْبَغْيَ) العدوان والتعدي على الآخرين في أموالهم أو دمائهم أو أعراضهم، وهو من عطف الخاص على العام؛ للاهتمام به.

وقوله (بِغَيْرِ الْحَقِّ) صفةٌ كاشفةٌ لبيان الواقع؛ لأن البغي لا يكون بحق، وما كان بحق لا يسمى بغيًا، وقد يسمى أَذًى، كما في قوله: ﴿‌وَٱلَّذَانِ یَأۡتِیَٰنِهَا مِنكُمۡ فَءَاذُوهُمَا﴾([5])، والسلطان في قوله (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا) البرهانُ والحجةُ.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٞۖ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمۡ لَا يَسۡتَأۡخِرُونَ سَاعَةٗ وَلَا يَسۡتَقۡدِمُونَ)(34)

المعنى: ولكلّ أحدٍ من عموم الخلائق في الأمم كلها أجلٌ وعمرٌ يُقبضُ عنده لا يتقدم عنه ولا يتأخر، أو: ولكل أمة من الأمم المكذبة للرسلِ أجلٌ، إذا انقضى أمدُه استأصلهم الله وأهلكهم.

ففي الآية وعيدٌ للمشركين الذين لم تنفع معهم حجة ولا برهان، وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله تَوعدَ المشركين بأنَّ لكل أمةٍ مِن أمم الرسل المكذبة أجلًا مضروبًا لهلاكهم، ومشركُو مكةَ ومن فعل فعلهم في التكذيب مثلُ غيرهم من الأمم، ليسوا استثناءً، فإذا جاءهم الأجل لم يُفلتهم العذاب.

فالأجل في قوله (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) يطلق على المدة المضروبة للشيء، من أولها إلى آخرها، مثل أجل الإجارة، ومنه قوله تعالى: ﴿أَیَّمَا ٱلۡأَجَلَیۡنِ ‌قَضَیۡتُ ‌فَلَا عُدۡوَٰنَ عَلَیَّ﴾([6]) وأجلُ الإنسان عمرُه، ، ويطلق الأجل على نهاية المدة المضروبة، كما في قوله: ﴿وَلَن یُؤَخِّرَ ٱللَّهُ ‌نَفۡسًا ‌إِذَا جَاۤءَ أَجَلُهَا﴾([7])، وكلَا المعنيينِ يصحُّ إطلاقه في الآية.

والفاء في (فَإذا جَاءَ أَجَلُهُم) للتفريع، أي لكل أمة أجل، فإذا جاء أجلهم لا يتأخرون عن الأجل المحدّد ولا يتجاوزونه، سَاعَةً ولا لحظة من الزمن، فالساعة أقلُّ مدة من الزمن، والسين والتاء في يستأخرون لتأكيدِ معنى الفعل، وهو عدم التأخر، وجملة (وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) عطفٌ على يستأخرون؛ للمبالغة في نفي التأخير، لا لانتفاءِ التقديم؛ لأن عدم التقديم عن مجيء الأجل تحصيلُ حاصل.

 

[1])    مسلم: 6635.

[2])    البخاري: تعليقا، بداية كتاب اللباس: 7/140.

[3])    مسلم: 3384.

[4])    النحل: 116.

[5])    النساء: 16.

[6])    القصص: 28.

[7])    المنافقون: 11.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق