(المنتخب من صحيح التفسير) – الحلقة (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وبعد؛
فسنبدأ – بعون الله تبارك وتعالى – في نشر تفسيرٍ لكتاب الله العزيز، عنوانه: (المُنتَخَبُ مِن صحيحِ التفسيرِ)، يتمّ نشرُه تِباعا في مقاطِع قصيرةٍ، على كلٍّ مِن موقعِ التناصحِ، وموقع دارِ الإفتاء، وصفحتِها على (فيس بوك)، أسألُ الله الكريم الوهابَ، أن يمنّ بإتمامِه، وينفع بهِ، آمين.
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
(المنتخب من صحيح التفسير)
الحلقة (1)
الاستعاذة: (أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ).
(أَعُوذُ) أستجيرُ وألوذُ، والاستعاذةُ: الالتجاءُ إلى الله، والامتناعُ به من المكروهِ، والاحتماءُ بجانبِه الكريم، لذا كان التعوُّذ دافعًا للوسواس، قال تعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ)[1].
(بِاللهِ) الباء للاستعانة، والله اسمُ الجلالة، أصله إلاه بمعنى مألوه، أي معبود، مِن فِعال بمعنى مَفعول، كإمام بمعنى مؤتمّ به.
و(الشَّيْطَانِ) مأخوذ مِن شَطَنَ إذا بَعُدَ، ومنه بئرٌ شَطونٌ بعيدةُ القعرِ، سُمي به الشيطانُ لبُعده عن الحقّ وتمرّدِه، ويقالُ لكلّ متمَرِّدٍ مِن الإنس والجن والدوابِّ شيطانٌ، وفي المسندِ مِن حديثِ أبي ذرّ رضي الله عنه قال: “قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَهَلْ للإِنْسِ مِنْ شَيَاطِينَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ)[2]، ويقال: تشيطن، إذا فَعَلَ فِعلَ الشيطان، ومنه قولُ عُمر، وقد حمَلوه على بِرْذَون، فتبختر به – التبختر: المشي مشية المعجبين – فنزل، وقال: “لقد أنكرت نفسي، ما حملتموني إلا على شيطان”[3]، أو هو مِن شاطَ إذا هلك، فتكونُ نونه زائدة، ومنه؛ شيّطتُ الطعام واللحمَ، إذا حرقتَه ودخنتَه ولم تُنضجه، و(الرّجِيمِ) المُبعد الملعونُ، المطرودُ من رحمة الله.
هذا هو اللفظ الوارد للتعوذ من الشيطان في القرآن، قال تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)[4] ، وورَدَ في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان إذا قام من الليل يقول: (اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْثِهِ وَنَفْخِهِ)[5] ، والهمز: المسّ والجنون، والنفخ: الكِبرُ والبطر، والنفث: النفخ من غير إخراج ريق، ومنه النفاثات في ما يفعله السحرة من النفث في العقد، وورد في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث خولة بنت حكيم رضي الله عنها: (مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا فَقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَظْعَنَ مِنْهُ)[6].
ولا يقال لإغاظة الشيطان: تعس الشيطان؛ لحديث أبي تَميمَة الهُجَيمي، عمن كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (كُنْتُ رَدِيفَهُ عَلَى حِمَارٍ، فَعَثَرَ الْحِمَارُ، فَقُلْتُ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تَقُلْ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ؛ تَعَاظَمَ الشَّيْطَانُ فِي نَفْسِهِ، وَقَالَ: صَرَعْتُهُ بِقُوَّتِي، فَإِذَا قُلْتَ: بِسْمِ اللهِ، تَصَاغَرَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ حَتَّى يَكُونَ أَصْغَرَ مِنْ ذُبَابٍ)[7].
والتعوذ مأمور به عند القراءة مطلقا، قال تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)[8] ، والمعنى إذا أردت القراءة فاستعذ، فأوقع الماضي (قرأت) موقع المستقبل، كما قال تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ…)، و(إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا…)، على معنى إذا أردتم القيام إلى الصلاة، ويجوز أن يكون على التقديم والتأخير، أي: استعذ بالله عند قراءة القرآن، والتقديم والتأخير سائغ في كل فعلين ارتبطا وتقاربا في المعنى، فإنه يجوز تقديم أحدهما على الآخر، كما قال تعالى: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى)[9]، أي: تدلّى واستوى بالأفق العلوي من الأرض، فدنى واقترب، ومنه: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)[10]، على التقديم والتأخير؛ انشق القمر واقتربت الساعة.
والأمر بالتعوذ عند القراءة للندب عند جمهور أهل العلم، خلافًا لأهل الظاهر، فأوجبوه في الصلاة وفي غيرها، ولكن بعد القراءة لا قبلها، جريا على ظاهر اللفظ في الآية، وهو شاذ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمها الأعرابي حين علمه الصلاة، ولو كانت من الواجبات لأمره بها.
ومِن فوائد الاستعاذة أنها تُذهِب الغضب، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، مِن حديث جندب رضي الله عنه قال: (اسْتَبَّ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ أَحَدُهُمَا يَغْضَبُ وَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ ذَا عَنْهُ؛ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَقَامَ إِلَى الرَّجُلِ رَجُلٌ مِمَّنْ سَمِعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَتَدْرِى مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آنِفًا؟ قَالَ: إِنّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ ذَا عَنْهُ؛ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَمَجْنُونًا تَرَانِي؟!)[11]، فأخذته العزة وجفوةُ الأعرابِ عن هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وحُرم التوفيق.
ومن فوائدها؛ أنها تُذهب فزع ما يراه النائم من المكروه، فلا يضرّه ما يراه؛ قال صلى الله عليه وسلم: (إذا فزع أحدُكم في النوم، فلْيقُل: أعوذُ بكلماتِ الله التامّة، مِن غضَبه وعِقابِه وشَرّ عبادِه، ومِن هَمَزَات الشياطينِ، وأن يَحْضُرون، فإنها لا تضرُّه)[12]، وقال صلى الله عليه وسلم: (الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللَّهِ، وَالرُّؤْيَا السَّوْءُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَمَنْ رَأَى رُؤْيَا فَكَرِهَ مِنْهَا شَيْئًا فَلْيَنْفِثْ عَنْ يَسَارِهِ، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ؛ لاَ تَضُرُّهُ، وَلاَ يُخْبِرْ بِهَا أَحَدًا، فَإِنْ رَأَى رُؤْيَا حَسَنَةً، فَلْيُبْشِرْ، وَلاَ يُخْبِرْ إِلاَّ مَنْ يُحِبُّ)[13].
[1] [الأعراف:200، فصلت:36].
[2] [المسند:21785].
[3] [الطبري:111/1].
[4] [النحل:98].
[5] [المسند:25266].
[6] [مسلم:2708].
[7] [المسند:20867].
[8] [النحل:98].
[9] [سورة النجم:8].
[10] [القمر:1].
[11] [البخاري:5701،مسلم:2610].
[12] [أبوداود:3893،الترمذي:3528].
[13] [مسلم:6042].