المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (3)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (3)
الفاتحة:
مِن أسمائها؛ فاتحةُ الكتابِ؛ لافتتاح القرآن بها؛ وأمُّ الكتاب، وأم القرآن لتقدّمها؛ لأن أم الشيء هو أساسه وأصله، والمقدم فيه، والسبعُ المثاني؛ لأنها تقرأ أو تُثنّى في كل ركعةٍ مِن الصلاة، وقد جاءت بذلك كلّه السنة؛ قال صلى الله عليه وسلم: (الحمدُ لله: أمّ القرآن، وأمُّ الكتاب، والسبعُ المثاني)[1]، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمّ القرآنِ، هي السبع المثاني والقرآنُ العظيم)[2].
ورد في فضلها ما خرجه البخاري، عن أبي سعيد بن المُعلّى رضي الله عنه، قال: قالَ : مَرَّ بِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أُصَلِّي، فَدَعَانِي، فَلَمْ آتِهِ حَتَّى صَلَّيْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ، فَقالَ: “مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنِي؟”، فَقُلْتُ: كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ: “أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ)[3]، أَلَا أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ؟”، فَذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَخْرُجَ، فَذَكَّرْتُهُ، فَقَالَ: “(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)؛ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ”[4].
وهذا أثارَ مسألة تفضيل بعض سور القرآن وآياته عن بعض، فمن أهل العلم من ينفي ذلك، ويُروى عن مالك؛ لأن الكلَّ كلامُ الله، والتفضيل يُشعر بنقصِ المفضول، وكلامُ الله لا نقصَ فيه، والتعظيمُ والتفضيلُ الوارد في الأحاديث لبعض السور والآيات، محمولٌ على تعظيمِ الأجر، مثل ما ورد في أنّ قراءةَ سورة الإخلاص ثلاثا تعدل القرآن[5].
وطائفة من أهل العلم، وهو اختيار القاضي ابن العربي، تقول بالتفضيل؛ لظواهر الآثار الواردة، والتفضيل باعتبار ما تضمنته بعض الآيات من المعاني العظيمة، الدالة على التوحيد، كما في سورة الإخلاص، وآية الكرسي، ممّا لا يوجد في غيرها، كسورة المسد مثلا.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأُبَيّ: (أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَرَدَّدَهَا مِرَارًا، ثُمَّ قَالَ أُبَيٌّ: آيَةُ الْكُرْسِيِّ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ لَهَا لِسَانًا وَشَفَتَيْنِ تُقَدِّسُ الْمَلِكَ عِنْدَ سَاقِ الْعَرْشِ)[6].
ومن فضلها وبركتها الاستشفاء بها؛ لما في الصحيح، من حديث أبي سعيد؛ في رقيته لديغَ الحيّ بسورة الفاتحة، وحصولِ الشفاء بها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّه على ذلك، مستحسِنًا فعلَه، وقال له: (وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ)[7].
(الحمدُ للهِ) (الْ): يصحّ أن تكونَ لاستغراق الجنس، الذي يستغرقُ المحامدَ كلّها، أي: الحمدُ بأجمعِه مستَحَقٌّ للهِ تعالى، ويصحّ أن تكونَ للماهية؛ ماهية الحمدِ من حيث هو.
و(الحَمدُ) الثناءُ الكامل على الله تعالى بما يستحقه، والفرق بينه وبين الشكرِ؛ أنّ الحمدَ هو الثناء على المحمودِ بأوصافِه؛ لأنه يستحقّها، أو مقابلةً وجزاءً له على إحسانِه، فتقول: حمدتُه؛ لأنه يستحق الحمدَ لشجاعتِه ومروءتِه، وتقول: حمدتُه على إحسانه، أما الشكر فهو الثناءُ مقابلَ النِّعم، لا غير، فتقول: شكرته على صنيعه، لا شكرته على شجاعتِه، وعلى هذا يكونُ الحمدُ أعم من الشكر، وبينهما عمومٌ وخصوصٌ مُطلق، فكلُّ شكرٍ حمدٌ، وليس كلّ حمدٍ شكرًا؛ لأن الشكرَ لا يكون إلا مقابل نعمة.
والقول الآخر: أنّ الحمدَ خاصٌّ بالثناء على المحمودِ باللسانِ؛ لصفاتِه التي تستحق الحمد، أو لسابِقِ إحسانِه، والشكرَ خاصٌّ بالثناء مقابلةَ الإحسانِ، لكن الثناء فيه يكونُ باللسانِ أو اليدِ أو الفؤاد، كما قال القائل:
أفادتكُم النَعْمَاءَ مني ثلاثةٌ يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِير الْمُحَجَّبَا
وعلى هذا يكون الحمد أعمّ من وجهٍ، والشكر أعم من وجه، فبينهما عمومٌ وخصوصٌ من وجه، يجتمعانِ في الثناءِ باللسان، الذي يستحقه الممدوح مكافأةً على إحسانِه، وينفردُ الشكر في الثناء باليد أو القلب، فإنه يسمى شكرًا، ولا يسمى حمدًا، وينفردُ الحمد في الثناء على الممدوحِ باللسان؛ لصفاتِه التي تستحق الحمدَ، كحمدِ الله تعالى على كماله.
واستفتح الحمدَ بالجملة الاسمية (الحمد)، دونَ أحمَدُ وحَمْدًا؛ لأنَّ الفعل يدلّ على حدوث الحمدِ وحصولِه مِن القارئِ دونَ سواه، بخلافِ الجملةِ الاسمية، فإنها تدل على ثباتِ الحمد واستمرارِه، بغضِّ النظر عن القائل، وقد حمدَ الله تعالى نفسَه في أولِ هذه السورة بنفسِه، وتضمنَ ذلك أمْرَنا بأن نَحمدَه، فهو على تقديرِ: قولُوا الحمدُ لله، وحذفُ ما يُعلمُ جائزٌ[8].
لذا؛ فإنّ الثناءَ المستفادَ مِن قراءةِ (الحمدُ) بالرفعِ، التي عليها العامةُ ـ أي: قولوا الحمدُ لله ـ أبلغُ مِن قراءةِ النصب، كما في قوله تعالى: (قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ)[9]، فكانت تحية إبراهيمَ أحسنَ وأبلغَ مِن تحيةِ الملائكة، واسمُ الجلالةِ تقدَّم معناهُ في البسملةِ.
[1] [الترمذي:3124].
[2] [البخاري:4704].
[3] [الْأَنْفَال:24].
[4] [البخاري:4474].
[5] [البخاري:6643].
[6] [سنن البيهقي:460، ومسلم:1349، دون زيادة: والذي نفسي بيده..].
[7] [البخاري:2156،مسلم:2201].
[8] مثال حذف ما يعلم في القرآن قوله تعالى: (وإنْ كانَ رجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أو امرَأَةٌ)، أي: أو امرأة تورث كلالة، ومنه قول الشاعر:
وَأَعْلَمُ أَنَّنِي سَأَكُونُ رَمْسًا إِذَا سَارَ النَّوَاعِجُ لَا يَسِيرُ
فَقَالَ السَّائِلُونَ لِمَنْ حَفَرْتُمْ فَقَالَ الْقَائِلُونَ لَهُمْ وَزِيرُ
(رمسا): ميتا تحت التراب، (النواعج): السراع من الإبل.
والمعنى: المحفورُ له وزير، فحذف لدلالة ظاهر الكلام عليه، وهذا كثير.
[9] [هود:69].