المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (5)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (5)
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيّاكَ نَسْتَعِينُ)
جملة (إِيّاكَ نَعْبُدُ) استئنافٌ ابتدائي، لذا ينبغي للقارئ أن يقف على (مَلِكِ يَومِ الدِّينِ)، ويبتدأ القراءة (إِيّاكَ نَعْبُدُ) ولا تكون إياك نعبد موصولة بما قبلها؛ لأنها انتقال من القسم الأول من معاني الفاتحة؛ الثناء والتمجيد، إلى القسم الثاني الذي هو بينَ العبد وربه، كما أخبر الباري في الحديث القدسي، على ما يأتي.
(إيَّاكَ) ضميرُ نصب مفعولٌ مقدّمٌ، تقديمُه يفيدُ قصرَ العبادةِ على الله تعالى، وحدَه دون سواه، أي: لا نعبدُ إلا إيّاك، والحصرُ فيه حصرٌ حقيقي، وليس ادعائيًّا؛ لأنّه على لسان المؤمنين، وهم لا يعبدونَ إلا الله حقيقةً.
وفي (إيَّاكَ نَستَعِينُ) حصرٌ آخرُ، إلا أنه ادعائي؛ لأنه لا يزال في الناس – سواء مِن المؤمنين أو غيرهم – مَن يستعينُ بعضهم ببعضٍ، الاستعانةَ الجائزة؛ التي أمر بها القرآن في قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)[1]، وفي الصحيح؛ قال صلى الله عليه وسلم: (واللهُ في عَونِ العبدِ ما دامَ العبدُ في عونِ أخيهِ)[2].
(نَعْبُدُ)؛ العبادة معناها: الغايةُ في الخضوعِ والتذللِ لله، تعظيمًا لأمرِه، وتمجيدا لشأنه، وانقيادًا لحكمِه؛ لاستحقاقِه أن يُعبدَ لذاتِه، مع المحبةِ الكاملةِ، والتعلق الخالص بالمعبودِ، فالمحبة أصل في العبادة، قال صلى الله عليه وسلم: (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا)[3].
وهذا هو الفرقُ بين تذللِ العابدِ، وتذللِ المنافق، فتذللُ المنافقِ متكلَّفٌ متصَنَّع، لِمَحضِ تحصيل نفع أو دفع مكروه، وتذللُ العابدِ مقامه التمجيد والتعظيمُ، مع غاية المحبة، والرغبة فيما عند ربه؛ طمعًا في جنته ورضوانه، والرهبة منه؛ خوفًا من غضبه وعذابه، فالخوف والطمع مِن مقاصد العبادة، وتحقيق العبودية، قال تعالى: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ)[4]، وقال تعالى: (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)[5].
ولا يُستعملُ لفظُ العبادة إلا لله، واستعمالُه في خطابِ غيرِ الله كفرٌ بواحٌ، وأكمل ما يتشرفُ به انتسابُ المسلمِ عبوديتُه لله؛ قال تعالى: (سُبحَانَ الّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ)[6].
وحين قِيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إنّ اللهَ قد غَفرَ لكَ ما تقدّم من ذنبِك وما تأخَّر – حتى يُخفّف عن نفسِه، وقد تفطّرت قدماهُ مِن قِيام الليل – قال: (أَفَلا أَكونُ عبدًا شَكورًا)[7].
(نَسْتَعِينُ) زيادةُ السينِ والتاء على أصل فعل العون للطلب، أي: نطلب العون، والمرادُ طلبُ العونِ على ما يصعُبُ تحصيلُه، وهو نوعانِ؛ الأول: استعانةٌ على أمر لا يقدر أحدٌ من البشر عليه؛ كشِفاء المريضِ، أو إعطاءِ الولدِ، فهذه استعانةٌ لا يجوزُ طلبُها إلا مِن الله تبارك وتعالى؛ لأنه وحدَه الذي يملكُها، ولا يقدرُ عليها غيره، وإليها الإشارةُ في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا استعنتَ فاستعنْ بالله)[8].
والثاني: استعانةٌ على التغلبِ على أمرٍ يقدرُ عليه الإنسانُ؛ المستعين وحدَه، كالاستعانة بالشفاعة والجاه لقضاءِ حاجةٍ، أو إعانة على رفع حمل؛ بجهد أو مال أو نصح، وهذا هو الذي مدحَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فاعله، بقوله: (وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ)[9]، وأمر الله تعالى به في قوله: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَان)[10].
وضميرُ الجماعةِ في (نَعْبُدُ) و(نَسْتَعِينُ)، أبلغُ في الثناءِ على الله مِن المفرد أعبدُ وأستعينُ؛ لإفادةِ ضمير الجماعة كثرةَ مَن يعبدُ ويستعينُ، وفي ذلك إغاظةٌ لمَن يعبدُ غيرَ الله، ويستعينُونَ بسواه؛ مِن الملاحِدَة والظالِمين، وأُعِيدَ الضميرُ (إيّاك) مع نستعينُ، ولم يُكتفَ بالعطفِ؛ كأن يُقال: (إياك نعبد ونستعين)؛ لأن الحصر في إياكَ نعبدُ حقيقيّ، وفي إياك نستعينُ إضافيٌّ ادعائِيّ، على نحو ما تقدّم توضيحه، فلو عطفَ (نستعينُ) دونَ إعادةِ (إيّاك)؛ لأوهم أن الأمرَ فيهما واحد.
وحَسُن تقديمُ العبادة على الاستعانة؛ لأنّ طلبَ المسلمِ المعونة مِن الله، لا يكونُ إلا بعد الإيمانِ بالله، وإفرادِه بالعبادةِ، وأيضًا الشأنُ تقديمُ العامّ على الخاصّ، فإياكَ نعبد عبادةٌ عامّة، وإيّاكَ نستَعينُ هو أيضًا عبادة، لكنّها عبادةٌ خاصةٌ، عبادةُ توكّلٍ واعتمادٍ على الله، في كلّ ما يحتاجُ إليه العبدُ.
والجمعُ بين العبادة والاستعانة؛ مِن باب الجمعِ بين الحاجة، وما يعينُ على تحصيلِها، وهو التقربُ بالعبادة، وتقديمها على الاستعانة مِن باب التمهيد؛ لتكونَ العبادة عونًا على حصول الإعانة.
وفي (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) التفاتٌ في الخطابِ، وانتقالٌ به من الغَيبَة إلى الخطابِ، وتلوين الكلامِ بالالتفات من فصيح كلامِ العرب، وفائدتُه تشويق السامع، وشدّ انتباهه، لِيتعلّق بما يُلقى إليه، ولا يسأمَ[11].
والمعنى في الآية: إيّاك، يا مَن هذه صفاتُه، في كمالِ الربوبيةِ والرحمةِ والجلال والملك والتفرّد، والقدرة المطلقة والسلطان، نَخصُّ بالعبادةِ، وطلب الاستعانة، لا نعبد سواك، ولا نستعين إلا بِك.
وأُبهمَ مفعولُ فعلِ نستعين، فلم يُذكر الشيءُ المطلوبُ الاستعانةُ عليه، بل تُرك على الشيوعِ، ولم يقيدْ بنوع خاص مِن الاستعانةِ؛ لأنّ الشيوعَ أميلُ إلى النفسِ، وأدخلُ في سرورِها، ولصلاحيةِ الشيوعِ لطلبِ كلّ نعمةٍ تخطرُ بالبالِ.
[1] [المائدة:2].
[2] [مسلم:4873].
[3] [البخاري:21، مسلم:43].
[4] [الإسراء:57].
[5] [الأعراف:56].
[6] [الإسراء:1].
[7] [متفق عليه].
[8] [الترمذي:2516].
[9] [مسلم:2699].
[10] [المائدة:2]
[11] ومنه قوله تعالى: (حَتَّىٰ إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ…).
ومنه في الشعرِ قولُ لَبِيد:
قَامَت تَشَـكَّى إلـيّ النَّفْسُ مُجْهِشَـةً وقـَـد حَـمَلْتُكِ سَـبْعًا بَعْـدَ سَـبْعِينَا
مخاطبا نفسه في الشطر الأول بالغَيبة (قامت)، وفي الشطرِ الثاني بضمير المتكلم (وقد حملتُكِ).