طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير –  الحلقة (15)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

 الحلقة (15)

 

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنّهُم هُمُ المُفسِدُونَ ولَكِن لَا يَشْعُرُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ)[البقرة:11-13].

 

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ) الفسادُ: ضدّ الإصلاح، وهو في اللغة: الاضمِحلالُ والهَلاكُ والتلاشِي الذي يقعُ به الضررُ، وحقيقته العدولُ عن الاستقامَةِ، وعن كونِ الشيء منتَفَعًا به إلى الضدِّ، والفسادُ في كلّ شيءٍ بحسبِه، ففي العقيدةِ: الكفرُ وموالاةُ أهلِه، وفي التجارةِ: الغشُّ وأكلُ المالِ بالباطلِ ونحوه، وفي الحكمِ: الجوْرُ وظلمُ الرعيةِ، وكراهيةُ الحقّ، ومصادرةُ الحرياتِ المشروعة، والتآمرُ على جماعةِ المسلمين، وشقّ صفوفِهم، والكيدُ لهم بالمكرِ والخديعةِ، وإظهارُ النصحِ مع طيِّ الصدورِ على القبحِ، وهو نوعٌ مِن فسادِ النفاق، وفي الإعلامِ: تسويقُ مشروع الظلمة، بنشرِ الإشاعاتِ، وتلفيقِ الأكاذيبِ، وإخفاءِ الحقيقة بطمسها، أو إبرازِها على غيرِ وجهِها، ومنه بينَ الناس؛ إثارةُ الفتنِ، وإحياءُ العصبياتِ القبليةِ، أو العرقيةِ، أو المذهبية، وبتزيين المعاصِي، وإشاعةِ الانحرافِ والفاحشِة، ومعاداةِ الصالحينَ والمصلحين والعلماء، وأهلِ الاستقامةِ والديانةِ، وشمولًا لهذا العمومِ وغيره، في الفسادِ المنهيّ عنه؛ حُذفَ مفعولُ (تُفسِدُوا) في الآية.

(فِي الأرضِ) الأرضُ اسمُ جنس مؤنث، هي كلّ ما سَفلَ، والمرادُ: الكرة الأرضيةُ، بما اشتملت عليهِ مِن مخلوقاتٍ وأنظمةٍ وسننٍ، وضعَها الله تعالَى على نواميس الإصلاح.

(نَحنُ مُصْلِحُونَ) مِن أصلح، والثلاثي منه صَلَح، وصَلُح، والصلاحُ ضدّ الفسادِ، فهو أيضًا في كلّ شيء بحسبه، يتنوعُ على الضدّ، كما تنوّعَ الفساد.

(أَلَا إِنّهُم هُمُ المُفسِدُونَ) (ألَا)؛ الهمزةُ للاستفهام، ولا للنفي، والاستفهامُ إذا دخل على نفيٍ أفادَ إثباتًا مؤكّدًا، أي: همُ المفسدونَ حقا، ويؤتَى بالتنبيه في الخطابِ للأمرِ الغريبِ، وكونُهم مفسدينَ ولا يشعرونَ، أمرٌ غريبٌ دونَ شكّ (ولَكِن لَا يَشْعُرُونَ) لكن حرفُ تأكيدٍ واستدراك، يختلفُ ما قبلَها عمّا بعدَها بالنفيِ والإثباتِ، فإذا كانَ ما قبلَها مثبتًا، كانَ ما بعدَها منفيًّا، ولا يكونُ حينئذٍ إلا جملةً؛ كما هنا، وإذا كانَ ما قبلها منفيًّا كان ما بعدها مُثبَتا، وإفراطُهم في العِناد بقولِهم إنّهم مصلحونَ، مع ما هم عليهِ مِن الفسادِ، جعلَهم لا يدركونَ حقيقةَ ما هم عليه، وصارَ جهلُهم بذلك مركبًا، فإنّ مَن لا يعلَم ويعلمُ أنّه لا يعلمُ يكونُ جاهلًا، ومَن لا يعلمُ ولا يعلمُ أنه لا يعلمُ يكونُ جهلُه مركَّبًا؛ لذا كان الاستدراكُ على تخيُّلهم أنّ ما هم فيهِ من الخيانةِ والخداعِ والهلاك، نجاةٌ وفطنةٌ وصلاحٌ، وهم في الواقع على ضدِّه، وهذا يرجعُ إلى ما تقدمَ مِن الختمِ والغشاوةِ على عقولِهم وبصائرِهم، فهم لا يعقلونَ.

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا) نُهوا في الآية السابقة عن الفسادِ، وهو يرجع إلى درءِ المفاسِدِ، ثمّ أمِروا بالإيمانِ، وهو يرجع إلى جلبِ المصالحِ؛ ودرءُ المفاسدِ مقدَّمٌ على جلبِ المصالحِ (كَمَا آمَنَ النَّاسُ) ما مصدريةٌ، والكافُ بمعنى مثلِ، نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، تقديرُه إيمانًا مثلَ إيمانِ الناس، وصحّ الحالُ مِن (إِيمَانًا) المقدرةِ وهي نكرةٌ؛ لأنّه محذوفٌ، فأشبَه المضمرَ مِن المعارفِ، كما في قولِه تعالى: (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً)، أي: إمهالا رويدًا.

والقائلُ للمنافقينَ آمنوا كما آمن الناس هم المسلمون؛ طلبوا مِن المنافقين أن يتركوا النفاقَ، ويؤمنوا كإيمانِ الناسِ المعهودينَ وقت ورودِ الخطاب، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه، فقال المنافقون فيما بينهم سرًّا، استهزاءً بالمؤمنين (أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) لا نستطيع أن نؤمنَ!! هل نؤمن إيمانًا كإيمان السفهاءِ؟!! ويَعنونَ المؤمنين، فأطْلعَ الله نبيَّه على ذلك، وردَّ عليهم (ألَا إِنّهُم هُمُ السُّفَاءُ) فلزمَهم السفَه، وهذا التركيبُ (آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ) يؤتَى به في مقامِ الإغراءِ على الفعلِ، والتأَسّي بالغير، وليس فيه دليلٌ على التقليدِ؛ لأن المراد: انظروا؛ ليحصلَ لكم الإيمانُ كما حصلَ للناس؛ لأن الأمرَ بالإيمان أمرٌ بمقتضياته ولوازِمِه، وما يوصلُ إليه.

والاستفهامُ في (أنُؤمِن كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) إنكاريّ، أي: قالوا لا نؤمنُ، فردّوا على الأمر الموجه إليهم بالعصيانِ وعدمِ الامتثال، مع ذكر السبب الموجبِ لذلك في زعمهم، وهو وصفُ المؤمنين بأنهم سفهاء، ضعفاءُ العقول؛ جرأةً منهم وبهتانًا، فردّ الله تعالى عليهم؛ استهزاءً بهم، بأنهم همُ السفهاءُ، والسفهاءُ مِن السَّفَه، وهو الطيشُ وخفّة العقلِ؛ لضعفٍ فيه، والسَّفَه الذي هو سوءُ التدبيرِ للمالِ، إنّما يأتي مِن ضعفِ العقلِ، وهذا الجوابُ منهم عندما أُمِروا بالإيمان، يُعدُّ مِن الخروجِ عن أصلِ الكلامِ ومحلِّ الدعوَى، فهم بدل أن ينظروا في صحةِ ما طلبَ منهم مِن عدمِه، وينقادوا في ذلكَ إلى الدليلِ؛ تركوا ذلك النظر الذي قد ينتفعون به، وتوجهوا إلى السبِّ والطعنِ في صاحبِ الدعوى، وتسفيهِ المسلمين  وتصنيفِهم، وهذا ديدَن أهلِ الفسادِ والعصبية والهوى، ومَن ضَعُفَت حجَّتِه، وعُلمت غوايَتُه، دأبُهم الجُرأةُ على الخَيِّرينَ والمُصلِحِينَ والدعاةِ، بالتنقصِ والسبابِ، وقبيحِ الكلامِ والافتراءِ، وتلفيقِ الكلامِ، وتسليطِ السفهاءِ عليهِم ببذيءِ الألفاظِ ووَقاحةِ اللسانِ؛ ليَعيبُوهُم ويَحطّوا مِن أقدارِهم، ويُسقِطوا حرماتِهم وهيبَتَهم، ويُهوّنُوا مِن أمرِهم، ويسعون من ذلك إلى ألا يَقبلَ الناسُ دعوتَهم، ولا يسمَعُوا نصحَهم، وليس ذاك بضارِّهم شيئًا، كما قال تعالى: (لَن يَضُرّوكُمْ إِلّا أَذًى)[1].

وهذه سنَّة المرسلينَ، وحكمةُ الله تعالى في السابقينَ واللاحقين، التدافعُ بينَ أهلِ الحقّ وأهلِ الباطل؛ ليزدادَ فضلُ أهلِ الحقّ، ويَعظمَ جهادُهم، وتُرفَع درجاتُهم، ولا تزيدُهم مذمّة النّاقصِ، والصبر والإعراضُ عنه إلّا اكتمالًا، قال تعالى لنبيه: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)[2].

وقال أبو الطيب:

وإذَا أَتَتكَ مَذَمّتِي مِن نَاقِصٍ       فهيَ الشهَادَةُ لي بأنّي كامِلُ.

(أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ) ردّ القرآنُ عليهم، فوصفَهم بالسفَاهةِ على أبلغِ وجهٍ وأكملِهِ، المؤكد بأربع مؤكدات؛ بأداةِ التنبيهِ (ألَا)، و(إنّ)، وضميرِ الفصلِ (هم)، وتعريفِ المسندِ (السّفهاء) بألْ الدّالةِ على قَصْرِه على المُسندِ إليه، ويُستفادُ مِن الردّ عليهم ورميِهم بالسفاهَةِ، أنّ الإعراضَ عن الجاهلينَ، الذي مَدَحَه القرآنُ، مقيّدٌ بمَن لم يشتَهرْ بالفسادِ، وعُرفَ بالشرِّ والعُدوانِ، كما قال تعالى: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا)[3] (ولَكِن لَا يَعلَمُونَ) العلمُ: معرفةُ المعلومِ على مَا هو عليه، وجاءَ التعبير في وصفِهم بالسفاهةِ بعدَ إنكارِ الإيمانِ: (وَلَكِن لَا يَعلَمُون)، وفِي وصفِهِم بالفسَادِ: (وَلَكِن لَا يَشعُرُونَ)؛ لأنّ الفسادَ في الأرضِ أمرٌ ظاهرٌ محسوسٌ، فمَن ينفِيهِ عن نفسِه وهوَ متّصفٌ به، حالُه حالُ مَن فقدَ الإحساسَ ولا يَشعُر، بخلافِ أمرِ الإيمانِ، في كَون المؤمنينَ فيه على الحقّ والرشدِ، وهم على الباطِلِ والسفهِ، محتاجٌ إلى استدلالٍ وعلمٍ، وقد فاتَهم هذا العلمُ بصحةِ إيمانِ المؤمنين، وجهلُوا أنّهم هم مَن على الباطِل.

 

 

 

[1] [آل عمران:111].

[2]) [الأعراف:199].

[3] [النساء:148].

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق