المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة(17)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (17)
(أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ)[البقرة:16].
(أُولَئكَ) الإشارةُ إلى المنافقينَ، الذين (إِذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنّا وإِذَا خَلَوا إِلَى شَيَاطِينِهِم قَالُوا إِنّا مَعَكُم).
(اشْتَرَوُا) الشراءُ هنا معناهُ الاستبدالُ والاختيارُ، وضُمّت الواوُ من اشتروا، ولم تُكسر كما هو الأصل عند التقاءِ الساكنين؛ للفرقِ بينَها وبين الواوِ الأصلية، كما في (أو) و(لو)، قال تعالى: (وَأَن لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ)[1].
(الضَّلَالَةَ بالهدى) الهُدى والضلالةُ نقيضانِ، لا يجتمعان ولا يرتفعان؛ والهدى: الدلالةُ والحقّ والبيان، وتقدم في قوله تعالى: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى)، والضلالةُ لها معانٍ منها الهلاكُ، ومنه: (وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ)[2]، ومنها التحيّرُ والتردد، فالضالّ متحيرٌ لا يدرِي أينَ يتوجه، ومنه: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)[3]، ومنها النسيانُ؛ لِما فيه مِن الحَيرة، ومنه: (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ)[4]، ومنها السيرُ في طريقِ الغواية على غير هدى، ولمّا كان الأمران -الضلالة والهدى- متاحانِ لهم مبذولان، لهم اختيارٌ في أخذ أيهما شاؤوا، كان حالُهم في استقرار أمرهم على الضلالة باختيارهم لها وترك الهُدى، كحالِ المتنقلِ الذي أخذ شيئًا ثم استبدله بغيره وتركه، فجُعل لتمكنه منه وقدرته عليه كأنه في يده، فإذا تركه واستقرّ على غيرِه فكأنه استبدله، وقد قعّد المالكية على هذا التوجيه للآية قاعدة: (المُخيّرُ بَين شَيئينِ يُعدّ كالمتنقّلِ)، وبنوا عليها مسائلَ عديدةً في أبوابِ الربا.
والضلالةُ في الآية هي المأخوذة، والهُدى هو المتروك، على القاعدة في مثله؛ مِن أنّ الباء تدخل على المتروك، وعبر عن المأخوذ وهو الضلالة بالشراءِ، دونَ الأخذ ونحوه؛ ليدل على رغبتهم في الضلالة، وحرصِهم عليها، فإن الشأن فيمن يشتري شيئًا أنه يدفع فيه مالًا لرغبته فيه، وحرصهِ عليه، بخلاف مَن أخذ شيئًا، فقد يأخذُه دون رغبةٍ فيه.
وأفردَت الضلالةُ مع أن الجمع (الضلال) أكثر وأشدّ في الذمّ لهم؛ لأنّ ذمهم على اتباع ضلالةٍ واحدةٍ، يستلزمُ ذمّهم على ما هو أكثر، بخلاف العكس.
وفي الجانب الآخر ذكر الجمع (الهدى) دون المفرد (الهدايةِ)؛ تمهيدًا لبيانِ صفقتِهم الخاسرة، حيث أعطَوا الهدَى الكثيرَ نظيرَ شيءٍ تافهٍ وقليل؛ ضلالة واحدة.
(فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُم) تجارتُهم في الواقع خاسرةٌ، ليست فقط غيرَ رابحةٍ، لكن ذَمّهم على عدمِ الربحِ يستلزمُ ذمَّهم على الخسارةِ، مِن باب أّوْلَى، ولأنّ التعبير بالخسارةِ قد يعطيهمُ العذرَ؛ فإنّ الخسارةَ في الغالبِ أسبابُها خارجةٌ عن قدرةِ التاجر؛ كتغيرِ حالِ السوق، أو الجهلِ بالتجارة ونحو ذلك، وحالهم لم يكن كذلك؛ لأنّ بَوارَ تجارتِهم كان لاختيارِهم الضلالة بإرادتهم، فلا يُتوهّم أنه لشيءٍ آخرَ ليسَ في مقدورِهم.
ودخولُ الفاءِ (فَمَا رَبحَتْ) في خبرِ الموصولِ سائغٌ؛ تشبيهًا له بالشرطِ، وعلى الخصوصِ إذا كانَ فيه عموم، كما هنا، ولكن ليس بلازم عندما لا يكون في الموصولِ عموم، كمَا في قوله تعالى: (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ)[5]، وهم إنّما خسِرُوا في تجارتِهم التي استبدَلوا فيها الضلالةَ بالهدى، لكن أسندَ حصول الخسارة وفوات الربحِ إلى التجارةِ كلّها، وذلك مبالغةً في خُسرانِهم؛ لأنه لو أسندَ فواتَ الربح إليهم، لَأَوهَم أنه يجري على العادةِ في شأنِ التاجر، مِن أنّه وإن خسرَ مرةً، فقد يربحُ أخرى، أمّا إذا كانتِ التجارةُ نفسُها خاسرةً، فليس للربحِ فيها مكانٌ.
وقد استعملت العرب هذا التركيبَ للمبالغةِ، فقالوا: (رَبِحَ بَيعُه، وخَسِرَت صَفقتُه)، ومنهُ قولُهم: (ليلٌ قائمٌ ونهارٌ صائمٌ)، وفي القرآن: (عِيشَةٍ رَاضِيةٍ)[6].
(ومَا كَانُوا مُهتَدِينَ) قَطعَ عنهم التوفيقَ والهدايةَ بحرف (ما) مع الفعلِ الماضي (كان)؛ فدلّت على النفيِ المؤكدِ المتّصلِ بالماضي المستمرّ، على أكملِ وجهٍ.
[1] [الجن:16].
[2] [السجدة:10].
[3] [الضحى:7].
[4] [الشعراء:20].
[5] [الشعراء:79].
[6] [الحاقة:21،القارعة:7].