طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير –  الحلقة (22)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

 الحلقة (22)

 

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) [البقرة:22-23].

 

هذا ذكرٌ لسبب آخر، لاستحقاقِ الله تعالى أن يُعبدَ، ولا يشركَ به شيءٌ، بعد قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

فقوله: (الّذي جَعَل لكم الأرضَ فِراشًا) هو نعتٌ آخرُ للربِّ سبحانَه، وهذه هي القاعدةُ في النعوت إذا تعددَتْ؛ لا تُعطفُ بالواو، بل تتوالى بدون عطف، وإن شاعَ خلافُ ذلك في الكتاباتِ المعاصرة.

وجَعلَ بمعنى صَيّرَ، لتعدِّيها إلى مفعولين (فِرَاشًا) تفترشونَها وتستقرُّون عليها، وما لا يُفترشُ منها، كالجبالِ والبحارِ، فهو كالمفروشِ؛ لأنّه من مصالح ومكمّلات ما يُفتَرَشُ، وما يصلحُ المفروش منها، تتعددُ معه منافعُها وتتكاثرُ، ويُكتشف منه في خدمة المفروشِ مع الأيامِ ما لم يكنْ معلومًا، ووصفُ الأرضِ بالفراشِ للتذكيرِ بأنها نعمةٌ، يتقلبون فيها كما يتقلبُ أحدُنا في فراشِه ويتنعم به، مستقرًّا مطمئنًّا فيه (والسمَاءَ بناءً) أصلُ البناءِ وضعُ لبنةٍ على أخرَى، حتى تثبت، وكون السماء مبنية، أي: متماسكة أجزاؤها وأجرامُها وكواكبها ومجراتها، مرتبط بعضها ببعض، في بناء ونظام بديع محكم، لا ينفرط عقده، إلا إذا شاء الله، قال تعالى: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)[1]، (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ)[2]، وحذف (لكم) عند ذكر السماء اكتفاءً بذكرِها أوّلًا.

(وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) هذا ممَّا تتمّ به نعمةُ جعلِ الأرضِ فراشًا والسمَاءِ بناءً؛ فتُنزل السماءُ الماءَ مِن السحابِ، وتُنبتُ الأرضُ الزرعَ والغذاءَ، وكلُّ ما علَا فهو سماءٌ، حتّى الهواءُ العلويُّ يسمّى سماءً، ومنه الحديثُ: (خَلَقَ اللهُ آدمَ طولُه في السماءِ ستُّون ذراعًا)[3].

وسمي المطر سماء لنزوله من السماءِ؛ كما في قول الشاعر:

 

إِذَا نَزَلَ السَّمَاءَ بأَرْضِ قَوْمٍ … رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا

 

(فأخرَجَ به مِنَ الثّمَرَاتِ رِزقًا لكُم) مِن للتبعيضِ، والباء للسببية، والرزق كلّ ما ينتفع به، أي: أنبت بالمطرِ بعضَ الثمراتِ لتنتفعوا بها، إذْ لَم تنبتْ بالمطرِ جميع الثمراتِ، فمنها ما يُنبته الله بدون حاجة إلى مطر، وسُمّي ما يخرجُ من الثمراتِ قبلَ التملك بالشراءِ أو العثورِ عليه رِزقًا؛ لكونِه ممّا يصحُّ الانتفاعُ به، وقد تقدم الكلام على الرزقِ في قوله تعالى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).

(فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا) أندادًا: جمعُ نِدّ، وهو الكفء والمثيلُ والنظيرُ، والندُّ أيضًا المعادِي والمناوِئ، ولذا قالوا: ليسَ لله نِدّ ولا ضِدٌّ، أي: لا تجعَلوا للهِ مماثِلًا، ولا ضدًّا منازِعًا؛ تجعلونَها جَعْلا، وتخلُقونَها زورًا إفْكًا، وهي في الحقيقة ليست كذلك؛ ليست أندادًا، ولا تصلحُ لذلك (وَأنتُم تَعلَمُونَ) الجملةُ حاليةٌ، أي: عجبًا لكم، كيفَ تتمرَّدون على المُنعِمِ، وتجعلونَ له أندادًا؟! والحالُ أنَّكم على علمٍ بهذهِ النعمِ التي تأتيكم منه، وتغمرُكم؛ فهو الذي خلقَكم ورزقكم، وأصلحَ بالربوبيةِ أمرَكم، وبذلكَ يكونُ الخطابُ عامًّا، موجّهًا لجميعِ مَن لا يُؤمنُ مِن المشركينَ.

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) الريبُ: الشكّ، وقد تقدمَ في أول السورة، وكلّ ما دونَ اليقينِ والجزمِ، الذي لا يتحقّقُ الإيمانُ بدونه، يدخُلُ هنا في الريبِ، فيشملُ الظنّ والشكَّ والوهمَ، وإن كانَ أَصْل الريبِ الشكّ، وعبرَ بـ(إنْ) الدالّةِ على الشكِّ وقلةِ حدوثِ الكفر منهم، دونَ (إذا) الدالّةِ على تحقّقِه وتوقّعِه مع أنهم كذلك؛ للدلالةِ على أنّه كان الواجب عليهم استبعادُ الشك والريب، وقلة حدوثه، وعدمُ القربِ منه والوقوع فيه.

و(في) في قوله: (فِي رَيْبٍ) تفيدُ الانحيازَ والظرفية؛ وقَعوا في الريبِ، وانحازوا إليه، حتى ملك عليهم أمرهم، وأحاطَ بهم من كلّ جانبٍ، إحاطَةَ الظرفِ بالمظروفِ (مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) يقال: أنزلَ، لِمَا نَزَلَ جملةً واحدةً، ونَزّلَ مِن التنزيلِ، الدالّ على التفريقِ، والتدرجِ في النزولِ، مرة بعد مرة، وليس جملة واحدة، وهو الملائمُ للتحدي بالقرآنِ على أبلغِ وجهٍ، دونَ (أنزلنَا) المقتضيةِ لنزولِه جملةً واحدةً، أي: فأتُوا بنجمٍ مِن نجومِه، وجملةٍ من جُمله، ولكم في الوقتِ من الفسحةُ ما تريدون، لتأتوا بسورةٍ مِن مثله، لكن قالُوا: نزّلَ لا تقتضِي دائِمًا التنزيلَ منجمًا مجزءًا، بل تدلُّ أيضا على النزول جملةً واحدة، بدليلِ قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً)[4].

وقال: (على عبدِنَا) دونَ رسولِنا أو نبيِّنا، تأليفًا لهم؛ لأن إرساله إليهم هو الذِي أثَار حفيظَتَهم وحسدهم، مع الوفاءِ بالغرض، لأنّ مخالفتَهم له مع استحضارِ كونِه عبدًا، تدلّ – مِن باب أولى – على مخالفتِهم له معَ استحضارِ كونِه رسولًا.

(إِنْ كُنتُمْ صَادِقينَ) عبَّرَ بـ(إِنْ) التي للشكّ؛ ليفيدَ أنّ صدقَهم لا مَكانَ له، وأنه في غايةِ البعدِ والتوقعِ.

 

[1] [الذاريات:47].

[2] [الحج:65].

[3] [البخاري:3336،ومسلم:7092].

[4] [الفرقان:32].

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق