المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة(23)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (23)
(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[البقرة:24-25].
(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) تدرج القرآن في تحدّيهم، وإقامةِ الحجَجِ عليهم؛ فأمرَهم بعبادة اللهِ، أمرًا مقرونًا بالبراهين على استحقاقِه تعالى وحده للعبادة، ثم تحدّاهم بالقرآنِ وإعجازه أن يأتوا مجتمعين متعاونين بمثله، وأخبرَ بعجزِهم عن ذلك في الماضِي (فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ)، ثم تنزّلَ بهم في الطلبِ، عندما عجزُوا في الماضي، فمَدّ لهم في الأملِ، وأمّلَهم المحاولةَ في المستقبل، كالمُسَلّمِ لهم بها، ولم يُأيّسهم منها، حتى إذا ما طمعوا وأمّلوا؛ جاءهم الحسمُ بقطع الطمع، فقال: (وَلَن تَفْعَلُواْ)، فصار الشرطَ (فإنْ لمْ تَفْعَلُوا) ليسَ له مفهومُ مخالفةٍ متوقّع، كأن يقال: فإن لم تفعلوا فاتقوا النارَ، وإن فعلتم فيكونُ كذا وكذا مثلًا، هذا التوقُّع للمفهوم ارتفعَ وانتفَى بالجملة المعترضةِ (ولن تفعلوا)، لِذا صحَّ أنْ يعطفَ على جواب الشرطِ (فاتَّقُوا النَّارَ) قوله: (وبَشِّرِ الّذينَ آمَنُوا)، وإلّا لامتنعَ العطفُ؛ لأنّ المعطوفَ على جوابِ الشرطِ جوابٌ، ولا يصحُّ: فإنْ لم تفعلوا بشرِ الذين آمنوا؛ لأن الأمر بالبشارةِ أمرٌ مطلقٌ، لا بقيدِ عجزِهم وعدم قدرتهم.
وفي قوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) أتى بإنْ الدالةِ على الشك، مع أنّ عدمَ فِعلِهم مُحقّق؛ مِن بابِ الحكاية لحالهم التي كانوا عليها، مِن توقعِ الغلبةِ لهم؛ ليكونَ إحباطُهم بعدَ ذلكَ بالعجزِ أشدَّ (وَلَنْ تفعَلُوا) نفيٌ لقدرتهم فِي المستقبلِ، بعد نفيِها في الماضي، وذلك إثارةً لهم، وزيادة في التحدّي؛ لتتحرّكَ هممُهم للمعارضَة، ويكونَ عجزُهم حينَها أبلغ، وعلى أكملِ وجهٍ (فاتَّقُوا النَّارَ) لم يبق لهم – بعد عجزهم وإقامةِ الحجةِ عليهم – إلا أن يتدَاركُوا أنفسَهم بالإيمانِ، وتصديقِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلا نجاةَ ولا اتقاءَ لهم من النارِ بدونِه (الّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ) الوَقودُ بالفتحِ: الحطبُ، وبالضمّ: الاشتعالُ، ووضعُ الحطبِ في النار، و(النَّاسُ) عامّ يُرادُ بهِ الخُصوصُ، وهم مَن سبقَ لهم في علمِ الله دخولُها (والحِجَارَةُ) لعلَّها كما قالَ ابنُ مسعود: حجارةٌ خاصّةٌ كحجارةِ الكبريتِ، التي تجمَعُ إلى سُرعةِ الاشتعالِ نتنَ الرائحة، وكذا الدّخان، وشدَّة الالتصاقِ بالأبْدانِ، أعاذَنا الله تعالَى مِن ذلك (أُعِدّتْ لِلكَافِرِينَ) هُيّئتْ للكافرينَ، ولِمَن فَعَلَ فِعلَهم، فذكرُ الكافرِين لا يقتضِي عدمَ دخولِ غيرِهم معهُم، وفي إعدادِها لهُم دليلٌ على أنّ النارَ مخلوقةٌ الآنَ.
(وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ) البشارةُ؛ التعجيلُ بالخبرِ السارِّ، يأتيكَ لأوّل مرةٍ، فإن تكررَ فهو خبرٌ، فمَن قالَ: مَن أخبرنِي بكذا أعطيتُه درهمًا، لزمَ أن يعطيَ كلَّ مَن أخبرَه، ولو قالَ: مَن بَشَّرنِي أعطيتُه، لزمَه أن يعطيَ مَن أخبرَه أولًا، دونَ غيرِه.
وأكثرُ ما تُستعملُ البشارةُ في الإخبارِ بالخير، وقدْ تستعملُ في العذابِ؛ كما قال تعالى: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)[1]، وهي مأخوذةٌ مِن البَشَرة؛ لظهورِ أثرِ الخبرِ على بشرَةِ الوجهِ (وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ) العملُ الصالحُ؛ كلُّ عملٍ أوجبَه الله تعالَى، أو نَدَبَ إليه مِن الشعائرِ، أو ممّا ينفعُ الناسَ، وفيهِ دليلٌ على أن الإيمانَ الموعودَ أهلُه بالجنةِ؛ هو المصحوبُ بالعملِ الصالحِ، لا مجرد الاعتقادِ العلمِيّ.
و(أل) في (الصّالحَاتِ) للجنس، وهي إن دخلت على الجمعِ -كما هنا- أفادتِ العمومَ في أنواعِه، لا في أفرادِه، أي: عمِلوا ما هو مِن أنواع الصالحات، وإن دخلتْ على المفردِ، أفادتِ العمومَ في أفرادِه؛ كما في قولِه تعالى: (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي)[2]، والمراد هنا أنواعُ الصالحاتِ، التي تعمّ الاعتقادَ والأفعالَ والأقوالَ، فمثالُ الاعتقادِ: الإيمانُ باللهِ وملائكته وكتبِه ورسله… الخ، ومثال الأفعالِ: الصلواتُ والزكواتُ ونحوها، ومثالُ الأقوالِ: الذكرُ والدعاءُ والأمر بالمعروف (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) الجنةُ؛ الحديقةُ والبستانُ المزينُ بالشجرِ والنخيلِ والكرومِ، سميَت بذلكَ لأنّها تجنُّ وتستُرُ مَن يَدخلُها، وفي الحديث: (الصوم جُنةٌ)[3]؛ وقايةٌ وسترٌ مِن الوقوعِ في الحرام.
وقدَّمَ ذكرَ الجنات والأنهارِ على الأكلِ مِن الثمراتِ؛ لأن التنعمَ بالنظرِ إلى الجناتِ سابقٌ على التنعمِ بالأكلِ مِن الثّمارِ؛ ولأنّ الأنهارَ سببٌ لإصلاحِ الثمارِ وكثرتِها.
(كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً) مِن للتعيينِ والتبعيضِ؛ كما في قولِه تعالى: (لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ)[4]، ويصحُّ أن تكونَ للبيان، والتي لبيان الجنس إنْ كانت مسبوقة بمعرفةٍ، كما في قوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ)[5]، علامتُها أن يقدّر مكانها (الّذِي هُو)، وإنْ سبقَها اسم مُبهم، كما تقول: (مَن تضربْ مِن رجلٍ)، فعلامتها تقدير ضميرٍ عائد عليها، التقدير: مَن تضرِب هوَ رجل.
(قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا) فاعلُ أُتُوا الخدمُ والوِلدانُ، أي: يأتيهِم الخدم والولدانُ بالرزقِ، والضميرُ (بهِ) يعودُ على المرزوقِ، وهو متشابهٌ في الصورةِ، كلُّه خيارٌ، لا رذلَ فيه، ليسَ كثمارِ الدنيا؛ فيها الجيدُ والرديءُ، ولتشابهِها في الصورةِ؛ كلَّما يأتيهِم منها صنفٌ يقولونَ: هذَا هو الذِي أُتيَ به إلينا مِن قبلُ، فالصورةُ واحدةٌ، والطّعوم متنوعةٌ (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ) مُطهرة خالصَة مِن كلّ ما يُنفرُ ويعيب، حِسّا ومعنى، وجاءت الصفةُ (مُطَهّرةً) مفردةً والموصوفُ جمع؛ لكونِه جمعَ تكسيرٍ، وجمعُ التكسيرِ لا تُشترطُ فيه المُطابقة، يُنعتُ بالمفردِ وبالجمعِ، وقال: (مُطَهرَة)، ولم يَقُل: طاهرة؛ إشارةً إلى أنّ طهارَتَهُنّ على أكملِ وجهٍ، وأنّ اللهَ تعالى هو الذِي طهرَهُن، وليسَ لهنّ في ذلكَ جهدٌ، ولَا تَكسّب.
وضمير (لَهُم فِيهَا) للرجالِ، وأزواجٌ أي: زوجاتٌ، ويجوزُ أن يُحمل قولُه: (وَلهُم فيهَا أَزوَاجٌ) على التوزيع، أي: لكل زوجٍ زوجةٌ، أو على التعدُّدِ؛ لكلّ زوجٍ زوجاتٌ، وهوَ الأقربُ.
والضمائرُ المجرورةُ المتواليةُ في قولِه: (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) فُصِلَت، ولو وُصلَت لقيلَ: وفيهَا هم خَالدونَ، ومِن الفَصلِ ما أنشدُوه:
سَبُوحٌ لهَا مِنْهَا عَليْهَا شَوَاهِدُ
والآيةُ جاءت على الأصل؛ وهو أنّ النكرةَ إذا وُصفت وأُخبر عنها بالمجرورِ، قدِّمت مجروراتُها عليها، وقد يتأخرُ المجرور؛ كما في قوله تعالى: (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ)[6].
[1] [آل عمران:21، وغيرها].
[2] [مريم:4].
[3] [البخاري:1904, ومسلم:1151].
[4] [الأعراف:41].
[5] [الحج:30].
[6] [الأنعام:2].