المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (25)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (25)
(يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [البقرة:26-27].
(يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) هذا تفصيلٌ آخر لحالَتي المؤمنين والكافرين، المتقدمة في قوله تعالى: (فأمّا الذينَ آمنوا)، وقوله: (وأمّا الذينَ كفَروا) بعد التفصيل السابق، ليفيد أنّ تصديقَ المؤمنين هو مِن الحقّ والهدَى، واستهزاء الكافرين بكلام الله ضلالٌ وغوايةٌ، وبدأَ في التفصيلِ بالأخير، وهم أهلُ الشقاوةِ والغَواية، على طريقِ اللفِّ والنشرِ غيرِ المرتب؛ للتعجيلِ بمقامِ الإنذار والتخويفِ.
والضَّلالُ: أصلُه الهلاكُ، كما قال تعالى: (وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ)[1]، وتقدم الكلامُ على الضّلالِ في الفاتحة، وكذلك الهداية.
وقوله: (يَهْدِي بِهِ كَثِيرًا) يدلّ على كثرة المهتدين، ولا يتعارضُ هذا مع الآية الأخرى: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين)؛ لأنّ كثرةَ المُهتدِينَ في أنفسِهم، لا تستلزمُ كثرتَهم على غيرهم مِن النّاس، فإنّ ما زادَ على العشرةِ يدخلُ لغةً في جمعِ الكثرةِ، ويَصدُقُ عليهِ أنّه كثيرٌ.
والفسقُ أصلُه الخروج عن الشيء مطلقًا، واستُعمل في الشرعِ للخروجِ إلى الفسادِ، قال تعالى: (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)[2]، ويقال: فَسَقَ الرجلُ يفسِقُ ويَفسُقُ، إذا فَجَرَ وضَلَّ، سواءٌ كانَ بكفرٍ أو بمعصيةٍ، فالكافرُ فاسقٌ، والعاصِي بالكبائِرِ فاسقٌ، فالفسقُ مراتبُ، يصلُ إلى الكفرِ، وإن كانَ أكثر ما يُطلّقُ في كلام الفقهاءِ على ما دونَ الكفرِ مِن الكبائرِ، والفسقُ بهذا المعنَى مصطلحٌ شرعيٌّ خاصّ، حتى قيلَ إنّ العربَ لم تعرفْهُ قبلَ الإسلامِ.
وقوله: (يُضِلّ بِهِ كَثيرًا) يَصلُحُ أن يكونَ جوابًا عن إنكارِهِم لضربِ الأمثالِ، في قوله: (مَاذَا أَرَادَ اللهُ بهَذَا مَثَلًا)، وإن كانَ استفهامُهم غيرَ حقيقيٍّ؛ لتضمُّنِ الجوابِ تخويفًا مِن الله، بأنّ ضربَ القرآنِ الأمثالَ هو مِن جُملةِ ما يَبتَلِي اللهُ تعالى بهِ عبادَه ويختبرُهُم، وكثيرٌ منهم ـ كأمثَالِهم ـ يضلُّهم اللهُ باستهزائِهم بضربِ الأمثالِ، ومَن حلّ بهِ ذلك يَئِسَ مِن رحمَةِ اللهِ، وهَلَكَ، كما قال تعالى: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)[3].
وكثيرٌ من الناسِ أيضًا يُثبِّتُه اللهُ في الاختبارِ؛ فينقادُ لكلّ ما جاءَه عَن ربِّه، حتّى لو قصَّرَ عنه عقلُهُ ولمْ يفهمْه، فتحلُّ به الهدايةُ، ويكونُ مِن الناجينَ؛ (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ)[4].
وفي قوله: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) ما يدلُّ على أنّه يجبُ على المسلمِ أنْ يحْذَرَ رَدَّ ما يأتِي عنِ الشرعِ، بمجرّدِ مُعارضَةِ العقلِ ـ كمَا فعَلَ كفارُ مكّةَ ـ فإنّ ذلكَ مِن أسبابِ الشقاوةِ والضلالِ، الذي يُخشَى ألّا تكونَ معه رَجعَةٌ ولا توبَةٌ، حيث حكمتِ الآيةُ على أصحابه بالفسقِ، فإنّ الفسقَ له تأثيرٌ في زيادةِ الانهماكِ في المعاصِي، والبعدِ عنِ الله، والعكسُ كذلكَ صحيحٌ، كما قال تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ)[5].
(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ) هذا مِن صفاتِ من تقدَّمَ ذكرُهم ممن أضلَّهم الله، فمِن صفاتِهم نقضُ العهدِ، وأصلُ نقضِ الشيءِ حلُّه بعدَ عقدِهِ وإبرامِهِ، بإفسادِهِ وتخريبِهِ، والمناقضةُ في الكلامِ تناقُضُه وتَعارُضُهُ وإبْطالُه، ونقائِضُ الشعراءِ: أن يُعارضَ الشاعرُ منافسَهُ بمَا يُفسدُ كلامَه ويضعفُهُ، والنقضُ لِمَا أُحكِمَ وأُبرِمَ مرذُولٌ، حتّى فيما يحتَرفُهُ الناسُ مِن الصنائِعِ، إن لمْ تَدعُ إليهِ المصلحةُ، قال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا)[6].
(عَهدَ اللهِ) العهدُ: كلّ ما أبرمَه المسلمُ و(عَهدَ) بحفظِهِ، ونقضُ العهدِ حَلّه، بالتملُّص منهُ، وتركِ العملِ به، وعهدُ اللهِ؛ ما أوصَى الله تعالى وأمرَ برعايتِهِ وحفظِهِ، فيَعمّ كلَّ التكاليفِ التي عهدَ اللهُ تعالى بها إلَى الإنسانِ وحَملَها، ويدخُلُ فيها دخُولًا أوليًّا العهدُ بتوحيدِ اللهِ تعالى، وألّا يعبدَ غيرهُ، كمَا قال تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)[7]، (مِن بَعدِ مِيثَاقِهِ) مِن بعدِ تأكيدِه وتوثيقِهِ، والميثاقُ: العهدُ المؤكَّدُ باليمينِ (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) تحذيرٌ عامّ، عن قطعِ وفصلِ كلِّ مَا أمرَ الله تعالَى بِوصْلِهِ، ومنه قطعُ الرحِم، وإفسادُ ذاتِ البينِ، ومنهُ فصلُ القولِ عن العملِ، بأن يقولَ المسلمُ قولًا ويفعلَ غيره، الذِي عمَّت بهِ بلْوَى المسلمينَ؛ حكوماتٍ وشُعوبًا، يتكلّمونَ كثيرًا، ولا يعملونَ إلّا قليلًا، بأسُهم بينَهم شديدٌ، فضعُفتْ دولَتُهم بذلكَ غايةَ الضعفِ، ووَهَنَ أمرُهُم، وصارُوا عبيدًا أتباعًا، بعدَ أن كانُوا سادةً متبوعِين، وعَكَسَ أعداؤُهم؛ فقرنوا القولَ بالعملِ، وأقلُّوا الكلامَ وأكثرُوا العملَ؛ كمَا كانَ عليه حالُ المسلمينَ في عهدِهم الأولِ، خُطَبُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كلماتٌ قليلاتٌ، لو شاءَ العَادُّ أن يَعدَّهنّ لَعَدَّهُنّ.
ولمّا أن خالفْنا تصدَّرَ أعداؤُنا، وصارُوا اليومَ هم المتبوعينَ، وغيرُهم الأَتْباع، وفي الميثاقِ الذِي بينَ أيدِي المسلمينَ، موصولا بربِّهم، يخُصّهُم فيه بالخطابِ دونَ غيرِهم، يقولُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)[8].
ومِن نَقْضِ العهدِ، وقطعِ ما أمرَ اللهُ تعالَى بهِ أنْ يُوصلَ تفريقُ الأمةِ، والتمكينُ لعدوِّها، بالتحالُفِ معهُ سرًّا على إِضعافِها، وتفويتُ مصالِحِها، وتمزيقُها، وتقسِيمُها مقاطَعاتٍ ودويلاتٍ، ونهبُ خيراتِها، مقابِلَ عَرَضٍ مِن الدنيا، ووعُودٍ بالنفوذِ والزعامَاتِ والأموالِ والترَؤُّسِ، وتولِّي مقاليدِ الأمورِ؛ ليكونَ ابنُ البلدِ في الواجهةِ هوَ الحاكِم، وفي الحقيقةِ خادمًا ذليلًا، يأتَمِرُ بأمرِهِم، وينفّذُ مخطَّطَاتِهم، ويلبِّي مصالحَهم، مُضيِّعًا لأمانتِه وأمَّتِه، متآمِرًا عليها.
وقدْ يكونُ نقضُهُم وقطعُهُم لِمَا أمَرَ اللهُ بوصلِه؛ بالتمادِي في الاجتهاداتِ الخاطئةِ، حرصًا منهم علَى الكراسِي والجَاهِ والسّلْطان، أو حَميّةً وعصبيّةً؛ للحزبِ، أو الجهةِ والقبيلَةِ، على خِلافِ ما أمرَ الله تعالى بهِ.
أو بنوعٍ آخرَ مِن الاجتهاداتِ الخاطئةِ، بالحرصِ على النوافلِ والرغائِبِ، مع تضييعِ المقاصِدِ، وكلياتِ الشريعةِ، وأمّهاتِ الدّين، ففرَّقُوا الأمَّةَ، وأذْهَبُوا رِيحَها، ومَكّنُوا بذلكَ لعدوِّهَا، وقدّموا لهُ خدمةً مَجّانيةً، مِن حيثُ شعروا أو لمْ يشعُروا، كما هو مُشاهدٌ الآنَ في الفتاوَى التي تُحرّمُ المشاركةَ في الانتخاباتِ، وغيرِها مِن أعمالِ المؤَسّسات الحاكمةِ، فملأَهَا خصُومُهُم، ممّن لا يُقيمونَ للشرعِ وزنًا، وتحكَّمُوا في رقابِهِم، وبَقوا تحتَ رحمتِهِم.
(وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) الفسادُ نقيضُ الإصلاحِ، وجِماعُ الإصلاحِ وضعُ الأمرِ في نصابِه بالحقّ والعدلِ، على الوجْهِ الذي يحقّقُ الخيرَ والسعادَةَ للناسِ، والفسادُ الاختِلالُ والاضمِحْلالُ، وقلبُ الأمورِ على الوجهِ المُؤذِنِ بالخرابِ والدمارِ، وشقاءِ العبادِ، والفسادُ المتوعَّدُ عليهِ في الآيةِ بالخُسرانِ، عامّ في كلِّ فسادٍ؛ في الحكمِ، وفي الإدارةِ، وفي السياسةِ، وفي الاقتصادِ، وفي الأسرةِ، وفي الأخلاقِ، وفي الإعلامِ، وغيرِ ذلكَ، وأفسدُ الفسادِ الشّركُ باللهِ تعالَى، فهو غايةُ الفسادِ، وليسَ بعده فسادٌ (أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) قَصَرَ الخُسرانَ عليهم بتعريفِ الجُزأَينِ؛ المسندِ والمُسندِ إليه، وأَكّدَه بضميرِ الفصلِ (هُم)، حتّى كأنّه لا أحدَ أخْسرُ منهُم، والخُسرانُ معناهُ النقصُ والبخسُ في الميزانِ، وفي غيرِه، والمرادُ الهلاكُ؛ لأنّ الخاسرَ خسِرَ وافتَقَدَ كلّ شيءٍ.
[1] [السجدة:10].
[2] [يوسف:103].
[3] [الزمر:36].
[4] [الزمر:37].
[5] [التوبة:124،125].
[6] [النحل:92].
[7] [يس:60].
[8] [الصف:2،3].