المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (29)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (29)
(قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)[البقرة:33].
(قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ) نداءٌ موَجهٌ مِن الله تعالى لآدم عليه السلام، أمره بعدهُ أن يخبر الملائكة بأسماء الأشياءِ التي علَّمه إيّاها، ولم يعلّمْها الملائكة.
والنداءُ إذا تقدم الأمرَ – كما هنا – يكونُ الغرضُ منه تحضيرَ ذهنِ المخاطَب، وتنبيهَه لِما سيلقَى إليه، بخلافِ ما إذا قدّم الأمرُ على النداءِ، فإنه يكون للتأكيدِ على أنّ الخطابَ متوجّهٌ إلى المنادَى، وأنّه الاسمُ المقصودُ بذاته، دونَ سواه؛ كما تقولُ: قم يا فلان، فإنّك تعنيه وحده دون غيره، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يَا بِلاَلُ قُمْ فَنَادِ بِالصَّلاَةِ)[1]، وقوله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر: (قُمْ يَا حَمْزَةُ، قُمْ يَا عَلِيُّ، قُمْ يَا عُبَيْدَةُ بْنَ الْحَارِثِ)[2]، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعنيهم دون سواهم، وذلك لمّا برزَ مِن صفِّ المشركينَ عتبةُ بنُ ربيعة، وشيبةُ بنُ ربيعة، والوليدُ بن عتبة، وطلبُوا أن يكون المبارزُ لهم ندًّا مِن بنِي عمومتهم.
(فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ) فلما أخبر آدمُ الملائكةَ بأسماءِ ما جهلوه، أيقنوا بفضله عليهم، وذلك من عدة وجوه؛ لاحتياجِهم أن يتعلموا منه، ولأمرِهم أنْ يسجدوا له، ولاصطفاء الله تعالَى له للنبوّة، وقد دلّت الآيةُ على جوازِ الثناءِ على الإنسان بمحاسنِه، إذا كان لا يُخشى عليه الاغترارُ بالمدح، وعلى أنّ العلمَ أفضلُ من العبادة، فإنّ الملائكةَ لا يفترونَ عن العبادة، جُبِلوا عليها، وَفَضّل اللهُ تعالى آدمَ بما علمه ما لم تعلَمْه الملائكةُ.
(قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) جملةُ (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) جوابُ (فلمَّا)، إنْ جعلت (لمّا) شرطية رابطة، والمعنى: لمّا أنبَأ آدمُ الملائكةَ بِما لم تعلَمه مِن الأسماء، وكانَ مِن قولهم عنه: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفسِدُ فِيهَا)؛ ذَكّرَ اللهُ تعالى الملائكةَ بكمالِ علمِه، وأنّه يعلم ما لَا علمَ لهم به، ويعلمُ ما غابَ عنهم في السمواتِ والأرض، وما يُبدونَ وما يكتُمونَ.
وغيبُ السمواتِ والأرض هو غيبٌ لغيرِ الله، أما عِلمُ الله تعالى فلا غيبَ معه.
(وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) يعلم ما أظهرتْه الملائكةُ، مِن مِثل قولهم: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفسِدُ فيهَا)، وما هو في نفوسِهِم لم يُظهرُوه.
وفي مثلِ هذا التركيبِ الدالِّ على التسويةِ بينَ أمرينِ، يجوز ذكرُ (كانَ) في الموضِعينِ؛ كأنْ يُقال: مَا كُنتُم تبدونَ وما كُنتُم تكتمونَ، وحذفُها من الموضعين؛ ما تبدون وما تكتمون، وذكرُها في الأولِ دونَ الثاني، والعكسُ، وذُكرت (كان) هنا في الثاني دونَ الأولِ، للدلالة على التسويةِ في علم الله تعالى بينَ ما خَفي وما ظهرَ، على أبلغِ وجهٍ، فإنّ (كانَ) تدلّ على الماضِي، وظواهرُ الأمور أعلاهَا ظهورًا الحاضِرُ، وخفاياها أبلغُها خفاءً ما كانَ في الماضِي، فدلّ ذكرُها في جانبِ الكتمانِ دون الظهورِ؛ على أنّ البارِي سبحانه يستوِي عنده ما كانَ في غايةِ الخفاءِ، مع ما كانَ في غايةِ الظهورِ.
[1] [البخاري:579، مسلم:377].
[2] [مسند أحمد:951].