المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (61)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (61)
(أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ)[البقرة:100-102].
(أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِنهُمْ) عاهدُوا عهدًا: أعطوا العهودَ والمواثيقَ، والضميرُ يعودُ على اليهود (نَبَذَهُ) النبذُ: إلقاءُ الشيءِ مِن اليدِ، ويغلب فيما يُنسَى، ولا يُرادُ الالتفاتُ إليه، ولا الاهتمام به، والمرادُ به تركُ العملِ بالأحكامِ، ونقضُ عهدِ الإيمانِ الذي أُخذَ عليهم.
والهمزة في قوله: (أَوَكُلَّمَا) للاستفهامِ التوبيخيّ والتقريعِ، والواو عاطفةٌ على محذوفٍ تقديرُه: أَكَفَرُوا وَكلّما عاهدُوا عهدًا نبذَه فريقٌ منهم، وجملةُ (وَكُلّمَا) معطوفةٌ على جملةِ القسم: (ولَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيكُمْ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ).
فهُم – أي اليهود – كلّما عاهَدُوا عهدًا على مرِّ عُصورِهم، وأعطَوا ميثاقًا بالعملِ بالتوراةِ؛ نقضَ فريقٌ منهم العهدَ، وتتابعُوا على النقضِ والتكذيبِ، فريقًا بعد فريقٍ، وخلفًا بعد سلفٍ.
(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) وبذلك انتهى حالُ أكثرِهم إلى الكفرِ وعدمِ الإيمانِ، فليسَ الفريقُ الذي نبذَ الأقلّين، بل أكثرُهم ومعظمُهم.
(وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ) تقدم معنى النبذ، وأنّ المرادَ به الذمّ على تركِ العملِ بالأحكام والكتاب، وإنْ تظاهرُوا بصيانتهِ وتزيينِهِ، كما قال سفيان رحمَه اللهُ تعالَى: “كانوا يضعون الكتاب في الحرير والديباج، ويحَلُّونَه بالذهبِ، ولا يُحلّونَ حلالَه، ولا يحرمونَ حرامَهُ”.
والخطابُ في الآية وإن كانَ لليهودِ، وفي حكمِهم مَن فعلَ فعلَهم.
والمرادُ بالرسولِ في قوله: (وَلَمّا جَاءَهُم رَسُولٌ) محمدٌ صلّى الله عليه وسلّم، فَإنّه لَمّا جاءَهم بما عرفوهُ مِن الكتابَ، وكانَ مَا جَاءَ بهِ مصدّقًا لِما معهم مِن التوراةِ؛ أعرضَ فريقٌ منهم عن التوراةِ، وعنِ القُرآن؛ لأنّ إعراضَهم عن أحدِهما إعراضٌ عنِ الآخر، وعن كلّ كتابٍ من عند اللهِ منزلٍ، وجعلوهُ وراءَ ظهورهم، فهمْ لم يجعلُوه خلفَهم فقط، وإنما جعلوه وراءَ وراء، فالظهورُ هيَ مِن جهةِ الوراءِ، وهم جعلوه وراءَها، إمعانًا في البعدِ والإعراضِ، مع قيام الحجة عليهم، وعلمِهم بصدقهِ، والعجبُ أنّهم فعلوا ذلكَ و(كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) لم يقلْ لا يعلَمونَ بل كأنّهم لا يَعلمُون؛ لأنّهم فِي الواقعِ يعلمونَ، ولكنّهم تجاهَلوا عنادًا، فكُفرُهم عَن علمٍ.
(واتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ) الجملةُ عطفٌ على قوله: (نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)، (واتّبَعُوا) اختاروا وفضَّلوا، والضميرُ يعودُ على اليهودِ، فهم الذينَ اختارُوا وفضَّلوا اتباع الشياطين (تَتْلُوا) مِن التلاوةِ، وهي قراءةُ المكتوبِ، أو استظهارُه مِن الحفظِ، (الشَّيَاطِينُ) هم المردةُ من الجنّ، ولعلّ المرادَ هنا مَن يفعلُ فِعلَهم مِن الإنسِ (عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ) اتّبعوا مَا تقولُه وتفتريه الشياطينُ على حكمِ سليمانَ وعهدِهِ ونبوتِهِ، ذلكَ أنه لمّا ماتَ سليمانُ عليه السلام وانتَهى ملكُه، نسبَ بنو إسرائيلَ ما أوتيه مِن النبوةِ والملكِ الواسعِ – مِن ركوبِ البحر وملكِ السفنِ، ومِن تسخير الريح والجن والطيرِ له بالخدمة والطاعة – نسبوهُ إلى السحر، وقالوا: لم يكن سليمانُ نبيًّا، وما أوتيَ هذا كلّه إلا مِن السحر.
وكانتِ الشَّيَاطِينُ كتبت السِّحرَ، وَدَفنوه تَحتَ مُصَلَّى سليمان عليه السلام، فَلمّا مَات اسْتَخرجُوهُ، وَقالوا لِلناسِ: إِنَّمَا مَلَككُم بِالسحرِ، فَتَعَلَّمُوهُ، وصدّق السفهاءُ ذلك، وَأَقْبَلُوا عَلَى تَعْلِيمِهِ على أنّه مِن ميراثِ نبوة سليمان، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَرَاءَة سليمان فَقَالَ: (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ) ما تلبَّسَ بالسحرِ، وعبّر عن السحرِ بالكفرِ ليدلّ على أنّه إنْ كان على الوجهِ الذي ذكره القرآنُ، مِن اعتقادِ الضرّ والنفعِ؛ فهوَ كُفرٌ، والأنبياء معصومونَ مِن الكبائرِ فضلًا عن الكفر (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ) شياطين الإنس والجنّ بالعمل بالسحرِ على المعنى المتقدمِ (كَفَرُوا) كفرَ شركٍ يخرجهم مِن الملة.
والسحرُ معناه في اللغة يرجعُ إلى معنَى اللطفِ والدقةِ، فكلّ ما لَطُفَ أخذهُ ودَقّ حتى تمكّنَ فهو سحرٌ، وفي الحديث: (إِنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا)[1].
والسحر أيضًا الخديعةُ، وما يفعلُه الناسُ منه أنواعٌ: منه ما هو تمويهٌ وَتَلْبِيسٌ وَتَخَيُّيل، وهذا وإن كانَ معصيةً وتضليلًا وخِداعًا فلا يكونُ كفرًا، وقال المعتزلةُ: السحرُ كلّه مِن هذا القبيلِ، لا حقيقةَ ولَا أَصْلَ لَهُ، كلّه خداع.
ومنه مَا يَكونُ بِخِفَّةِ الْيَدِ وسرعةِ الحركةِ، وهو قريبٌ مِن الأول.
ومنه ما يحصلُ للساحرِ بتَعْظِيمِ الشَّيَاطِينِ؛ لِيُسَهِّلُوا لَهُ مَا عَسُرَ منَ المحرّماتِ وخوارقِ العاداتِ.
وَمنهُ ما هو أَدْوِيَةٌ وأدخنةٌ وغير ذلك.
وَعِندَ أهل السنة: السحرُ لهُ حَقِيقَةٌ، يَخْلُقُ اللَّهُ عِنْدَهُ من الضرّ والنفعِ، أو غير ذلكَ مِن خوارقِ العاداتِ ما شاءَ، كمَا قالَ تعالى: (وَمَا هُمْ بِضارّينَ بِهِ مِن أَحدٍ إلَّا بِإِذنِ اللهِ) وفي البخاري عنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (سَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودِيٌّ مِنْ يَهُودِ بَنِي زُرَيْقٍ، يُقَالُ لَهُ لَبِيَدُ بْنُ الْأَعْصَمِ)[2].
واتفق السلف على وجوب قتل الساحر، وأجمَعُوا على تحريمِ السحرِ، وعدِّهِ في الكبائرِ، ونصّ بعضُهم على كفرِ الساحرِ، ومَن اعتقدَ تأثيرَ السّحر، أو سحرَ بكلامٍ يكون كفرًا؛ فإنّه كفرٌ بلا خلافٍ.
وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يُقتل الساحرُ، ولا يستتابُ، إلّا أنّ أبا حنيفةَ جعلَه في عدمِ الاستتابةِ كالمرتدِّ، وجعله مالك كالزنديقِ؛ لأنّ صاحبَه يستتر بِفِعلِهِ، كالزنديقِ الذي يظهر الْإِسلَام ويُبطن الكُفْرَ، ولذا فُسرَ كلامُ مالك على أنه إنْ أسرّه يقتل ولا يُستتاب، وإن أظهرَه أستُتيبَ.
قال الباجي: “لا يقتل حتى يثبت أن ما فعله من السحر هو الذي وصفه الله بأنه كفرٌ”[3]، أي ممّا يرجع إلى اعتقادِ ضرّه ونفعِه، أو كان بكلامٍ فيه كفر.
وذكرَ مالكٌ السحرَ في الموطّأ في بابِ الغيلة، فجعلَ القتلَ به كقتلِ الغيلة، لا يُقبَل فيهِ عفوٌ، وقالَ الشَّافِعِيُّ: لا يُقتلُ الساحرُ إلا إذا قتلَ بسحرهِ، والسحرُ عندَه معصيةٌ.
[1] [رواه البخاري:5434].
[2] [رواه البخاري:5433،ومسلم:2189].
[3] [المنتقى شرح الموطأ:7/117].