المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (68)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (68)
(وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [البقرة:116 – 118].
نزلت (وَقَالُوا اتّخذَ اللهُ ولَدًا) لمَّا قال اليهودُ: عزيرٌ ابنُ الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقالوا: الملائكةُ بناتُ الله سبحانه وتعالى.
(سُبْحانَه) سبحانَ منصوبٌ على المصدر، أُسبِّحه سبحانًا بمعنى أقدّسُه وأنزِّهُه عن النقائصِ، ومنها أن يكونَ له ولدٌ؛ لأن الولدَ والزوجَ نقصٌ واحتياجٌ، يكملُ به صاحبُه حاجتَه، واللهُ الغنيُّ الحميدُ، منزّهٌ عن الافتقارِ والحاجةِ (بَلْ) إضرابٌ وإبطالٌ للكلامِ السابق، وهو نسبةُ الولدِ لله سبحانه وتعالى (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) هذا كالدّليلٍ على إبطالِ ما تقدمَ، مِن نسبةِ الولدِ إليه، واللامُ في قوله: (لَهُ) للمِلكِ، فمَن في ملكِه وسُلطاتِهِ السماوات والأرض وما فيهنّ؛ كيف يحتاج للولد؟! لأنّ الولد يفتقرُ إليه الناقصُ؛ ليسدَّ به بعضَ حاجتِهِ، والله منزهٌ عن الحاجة، وقوله: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ) (مَا) تُستعملُ عند المحقِّقينَ للعاقلِ ولغيره، ولهُما مجتمعين كما هنا.
(كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ) التنوين عوضٌ عن المضاف إليه، والتقديرُ: كلُّ مَن في السمواتِ والأرضِ – أي العالم بأسرهِ، علويه وسفليه – لهُ قَانِتونَ، في قبضته تحت سلطانه، والقنوتُ لزوم الطاعة والخضوع والانقياد، وجاء (قانتونَ) على صيغة جمع المذكرِ الخاصّ بالعقلاءِ مِن بابِ التغليبِ؛ ولأنّ قنوتَ العقلاءِ عن إرادةٍ واختيار، فهوَ أَبلغُ.
واستدلَّ الفقهاءُ بالآية على أنّ مَن ملكَ ولدَهُ عُتقَ عليهِ؛ لأنّها نفتِ الولديةَ لله سبحانه وتعالى بإثباتِ العبودية، فدلّ على تنافِيهِما.
(بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) بديعُ خبرُ مبتدأ محذوف[1]، هو بديع، والإبداعُ معناهُ الاختراعُ دفعةً واحدةً على غيرِ مثالٍ سابقٍ، فالسمواتُ والأرض وما فيهما من الأنواع والأجناسِ، لم يكنْ لها قبل خلقِهِ شبيهٌ ولا مثيلٌ (وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا) أرادهُ وقضَى أنْ يكونَ، قيل: قدرُ الله وقضاؤُه واحدٌ، والصحيح التفريق بينهما.
فالقدرُ تقديرُ الله سبحانه وتعالى الأمورَ قبل أن تقعَ، والقضاء إنفاذُ ذلك القدَر، وخروجه من العدم إلى الوجودِ.
(فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) (كُنْ) مِن كانَ، وهي كان التامةُ، بمعنى أوجَدَ وأحدث، فإذا أرادَ إيجادَ شيءٍ فبمجردِ إرادةِ إيجادهِ يكونُ موجودًا، فإنّ مَن ملك السموات والأرض، وكان الكون كله في قبضته، لا يحتاجُ إلى سببٍ في إيجاد ما يريده، كما زعمتِ النصارى بنسبتِهم المسيحَ – لمَّا لم يكن له أبٌ – إلى الله، وإنما أمرُهُ سبحانه إذا أراد حصولَ شيء أن تتعلق به إرادتُه، فيحصلُ بلا توقّفٍ، فلا يحتاج سبحانه وتعالى حقيقةً في كلِّ إيجادٍ إلَى قولِ كُنْ، وإنّما هو تمثيلٌ للتقريبِ في سرعةِ إيجاد ما يريد.
(وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ) الذين لا يعلمونَ هم كفار قريش، و(لولا) بمعنى هلا، تدل على التحضيض[2]، والحث على الفعل، وعلى تمنيهم أن تأتيهم آيةٌ من السماء ليؤمنُوا، وهم في ذلك مستهزؤون كاذبونَ، فقد بلغت بهم المكابرة والاستعلاء مبلغًا عظيمًا، حتى إنهم نزَّلوا أنفسَهم منزلةَ الملائكة والأنبياءِ، وطلبوا أن يكلمَهم الله جهرة، أو تنزل عليهم الملائكة، كما قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا)([3])، ولمّا بلغَ بهم الجحودُ ذلك المبلغَ، عمُوا وصمّوا، وأعرضُوا عما يرونَه من المعجزات الباهرةِ، وأعظمها القرآنُ المعجز، تَرَكُوا ما بينَ أيديهِم وقالوا: (لَولَا تَأتِينَا آيَةٌ) يريدونَ: أيّ آيةٍ غير ما بينَ أيدِيهم، فالتنوينُ في (آية) للتنكيرِ، وكان مما اقترحوه مِن الآياتِ: (لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا)([4]).
(كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ) الكاف للتشبيه، والمعنى: مثل قولهم في المكابرةِ والجُحود وتكذيبِ الآياتِ قال الذينَ من قبلهم؛ فقال قوم موسى عليه السلام: أَرِنَا اللهَ جَهرَةً، وقال قوم عيسى عليه السلام: أَنزلْ عَلينَا مَائدَةً مِن السّماءِ، ويمكن حملُ (كَذَلِكَ) على التفخيمِ والتهويلِ مِن الحَالِ التِي هم عليها؛ للتحذيرِ منها، لاستمرارِ حالِهم على ما قالَهُ الأوّلونَ، لأنّ في قولِه بعده: (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) ما يُغنِي عن التشبيهِ.
(تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) في الكفر والعمى عن الهدى، بسببِ العنادِ والجحودِ (قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) مَن يطلبون اليقينَ صادِقينَ مُنصِفينَ قد جاءتهم البيناتُ، ومِن أعظمِها القرآنُ المعجزُ، فنفعتهُم الآياتُ، ولا يزالونَ ينتفعونَ بها، فاليقين فيهم مستمرٌّ، وهذا سرُّ التعبير بالمضارعِ (يُوقِنُونَ)، الذي يفيدُ الاستمرارَ والتجدّد.
[1]) وهو إنْ كان مِن الثلاثيّ بَدَعَ – وقد جاء قليلا – فلا إشكال أن يكون بمعنى فاعلٍ، كعليم وقديرٍ، بمعنى عالم وقادر، وإن كان من المزيدِ فمجيئه بمعنى اسم الفاعلِ مُبدع ليس بقياس، لكن سُمع في ألفاظٍ غيرِ قليلةٍ، كبديع في هذه الآيةِ بمعنى مُبدع، وسميع بمعنى مُسمع، في بيت عمرو بن معديكرب في مطلع قصيدة له، وقدْ أُخذَت أختُه ريحانة، فلم يقدرْ على افتِكاكِها:
أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ يُؤَرِّقُنِي وأَصْحَابِي هُجُوعُ
وفيها البيت المشهور:
إذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شيئًا فدَعْهُ وجاوِزْهُ إلى مَا تَستَطِيعُ
(السميع بمعنى المسموع، ويؤرقني: يحرمني النوم، وهجوم: نيام).
وسُمع منهُ بشيرٌ ونذيرٌ وقعيدٌ وحبيبٌ وقضيٌّ وهديٌّ ووصيٌّ وحكيمٌ وفريدٌ وأنيقٌ وأليمٌ، في أخوات لها جاءت بمعنى مُفعِل، ومَن رأى حملَ بديعٍ في الآية على القياسِ، ذهبَ إلى أن بديع هو على المبالغةِ؛ كوجيعِ وأليمِ، على حد قولِ القائلِ:
تحيةُ بينِهم ضربٌ وجيعُ.
أو صفة مشبهة من بدعَ، بمعنى بديعةٌ سماواتُه، وليس على اسم الفاعلِ.
[2]) لولا تكونُ للحضِّ على الفعل كما في الآية، وتكون حرفَ امتناع لوجود، كما في قولك: لولا الخيانة لانتصرنا، والفرق بين لولا في الموضعين؛ أنّ التي للتحضيض لا يليها إلا الفعلُ، إمّا ظاهرًا، كما في الآية: (لَولَا تَأتِينَا آيةٌ)، أو مضمرًا، كما في قولكَ: لولا العاملون في المصارف يوفرون السيولة، بخلاف لولا حرف الامتناع؛ فيأتي بعدها مبتدأ محذوف الخبر، كما في المثال السابق: لولا الخيانة لانتصرنا، وقد تكون لولا للاستفتاح.
[3]) الفرقان:21.
[4]) الفرقان:8-9.