المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (69)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (69)
(إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيم وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [البقرة:119 – 121].
(إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) أسند الكلام في قوله: (إنَّا أرْسَلناكَ) إلى ضمير الجلالة، دون إنّ الله أرسلك – مثلا – تشريفًا للنبي صلى الله عليه وسلم، حتى كأنّ الباري يكلمه مشافهة (بِالْحَقِّ) ظرف مستقر، في موضع الحال، والباء للملابسة: إنَّا أرسلناك مؤيدًا ومصحوبًا بالحقّ (بَشِيرًا وَنَذِيرًا)[1] مرغبًا ومرهبًا، حالان من الكاف في أرسلناك (وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيم) قراءة الجمهور بضم التاء واللام (تُسألُ) خبرٌ، أي: لا تُسألُ ولا تُلامُ عن أعمالِهم إنْ لم يؤمنُوا، فلا تُكلَّف إلّا نفسَك بعدَ أنْ بلَّغتَ، وقراءة فتح التاء وجزم اللام لنافعٍ (تَسألْ) نهيٌ عن السؤال[2]، والنهي عن السؤال عنه للتهويل والتفخيم، حتى كأنّ الوصفَ لا يحيطُ به، والسامع لا يطيقُ سماعَه؛ لفظاظتهِ، فإنّ مِن أغراضِ النهيِ في البلاغة التفخيم، كما في قولِ عائشةَ رضيَ الله عنها عن صلاةِ النبيّ صلى الله عليه وسلم: (يصلي أربعًا فلا تسلْ عن حسنِهنّ وطولهنَّ)([3])، وقولك: عن الملوكِ لا تسألْ، والآية تسليةٌ للنبيّ صلّى الله عليه وسلم، وتثبيتٌ له في مواجهةِ إعراضِهم، و(الْجَحِيمُ): المتأجِّجُ من النار.
(وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) الملة هيَ كالدِّينِ والشريعة، قال تعالى: (دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) ([4])، وهي ما شرعه الله تعالى لعباده على لسان أنبيائه، مِن أمْلَلْت الكتابَ فهو مملولٌ، ومنه: طريقٌ مَملولٌ، أي: مسلوكٌ معروفٌ، والفرق بين هذه الثلاثة؛ أنّ الملّة لا تُنسب إلى الله، فلا يقال: ملةُ الله، وتنسبُ إلى الأنبياءِ، كمَا في قولِهِ: (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا)، ولا تُنسبُ إلى أفرادِ الأمة، فلا يقال: ملةُ عليٍّ، وتُطلق على ملةِ الباطلِ، فيقال: الكفر ملةٌ واحدةٌ، والدِّينُ ينسب إلى الله، وإلى آحادِ الناس، ويُطلق أيضًا على الحقِّ وعلى الباطلِ.
والشريعةُ اسمٌ للأحكام الجزئية المتعلقةِ بالمعاشِ والمعادِ، سواء كانت منصوصةً بالوحيِ، أو راجعةً إليه، وأُعيدَ حرفُ النفيِ مع العطفِ في قوله: (وَلَا النَّصَارَى) ليدلَّ على استقلالِ عدمِ رضاهُم عنهُ، وعن دينِ المسلمينَ، وأنهم ليسوا فقط تبعًا لليهود.
والآية مبالغةٌ في تيئيس النبيِّ صلى الله عليه وسلم منهم؛ لأنهم إذا لم يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم – وهو لن يتبع ملتهم – فيكونُ انقيادُهم له مُحالًا، فهو من التعليق على ما لا يحصلُ، كنفيِ دخولِهم الجنةَ حتّى يلجَ الجملُ سمَّ الخِياط.
(قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ) هدى الله الإسلامُ، هو الهدى حقيقةً، فهو الحقّ، لا ما تَدعونَ إليه، فقد جاء الردّ عليهم بأبلغِ وجهٍ، أُكدَ بعددٍ مِن المؤكِّدات؛ وهيَ إنّ، وضمير الفصل، وإضافة الهدى إلى الله، وإعادة الهدى في الخبرِ مرة أخرى، على حدِّ قولِ النبيّ صلى الله عليه وسلم: (فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتهُ إلَى الله وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتهُ إلَى الله وَرَسُولِهِ)([5])، وقول أبي النّجم: أَنا أَبو النَجمِ وَشِعري شِعري، وتعريف طرفي الإسناد، المفيد لقصرِ الهدى على الإسلام، مِن قصرِ الصفة على الموصوف.
(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم) (وَلّئِنِ) اللام موطئة للقسمِ، تأتي قبل أدواتِ الشرط، وتكثر قبل (إنْ) الشرطية، ولسبقِ لامِ القسم على الشرطِ يُجابُ القسمُ بعدَها دون الشرطِ (أَهْوَاءَهُمْ) الأهواء جمع الهوى، وهو: ما تهواه النفوسُ وتشتهيهِ على خلافِ الدليل، ممّا تدعو إليهِ ملّتهم الباطلة، وأتي بالظاهر (أهواءَهمْ) دون الاكتفاء بإعادة الضمير على الملةِ؛ تأكيدًا على مُلازمةِ الهوَى لهم، تنفيرًا مِن اتِّباعهم (بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) مِن الوحي والدين المعلوم صحته (مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) إن اتبعت أهواءهم ليس لك مولى ولا نصير، يمنع عنك عاقبة السوء، وتقدم الفرق بين الولي والنصير قريبًا، و(مِن) في: (مِنْ وَلِيٍّ) لتأكيد النفي، وجملة (مَا لَكَ مِنَ اللهِ) جواب القسم؛ لأنها لو كانت للشرط لاقترنت بالفاء، والخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم، والمقصود كلّ أفراد أمته، كالخطابِ في قوله تعالى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)([6])، والمرادُ من النهي عن اتباع أهوائهم التحذيرُ مِن إطماعِهم في النيلِ من الدين، بمداهنتهم وموافقتهم في باطلِهم، كما يفعلُ بعضُ من يتورطُ معهم فيما يعرف بحوار الأديان، وجيءَ بـ(إنْ) الشرطيةِ، الدالة على ضعفِ احتمالِ وقوع ما بعدَها؛ لأنّ اتباع أهوائِهم الشأنُ فيه أنه احتمالٌ ضعيفٌ في حقّ المؤمنين.
(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ) الذين آتيناهم الكتاب؛ هم كلّ مَن آمن بالنبيّ صلى الله عليه وسلم من هذه الأمة، ومَن آمن مِن أهل الكتابِ، مثل عبد الله بن سلام من اليهود، وعدي بن حاتم وتميم الداري من النصارى، فحقّ التلاوةِ لكتابِهم وكتاب المسلمين يعمُّهم.
و(الكِتَابَ) المراد به جنس الكتاب المنزل من عند الله، كالقرآن والتوراة والإنجيل، فأَلْ فيه للجنس، و(يَتْلُونَهُ) حال مقدرة من (الّذينَ آتَينَاهُم) أيْ: حالةَ كونِهم الآنَ يتلونَه حقَّ تلاوتِه، وإنْ كانَ منهم من لم يكن مِن قبل يفعلُ ذلك، و(حَقَّ) مفعول مطلق، مضاف إلى مصدر الفعل يتلونه، وهو (تِلاوَتِهِ) مِن إضافة الصفةِ إلى الموصوفِ، فمُؤمِنُو أهلِ الكتاب من اليهود والنصارى، الذين لم يحرِّفوا كتابهم، يتلونَه حقّ تلاوتِهِ، ويتلونَ القرآنَ كذلك حقَّ تلاوته، والمسلمونَ يتلونَ كتابهم القرآنَ حقّ تلاوتِهِ، فالضميرُ في (يتلونَه) وفي (تلاوتِهِ) عائدٌ إلى جنسِ الكتابِ، بالمعنى المتقدمِ.
وحقّ التلاوةِ يتطلبُ الأداءَ السليمَ لحروفهِ، والتدبرَ في معانيه، والعملَ بأحكامِهِ، وبالأوامرِ والنواهِي، وتحليلَ حلالِه وتحريمَ حرامِه، ويتطلبُ عدمَ التحريفِ، والإيمانَ بكلِّ الكتبِ، لا الإيمان ببعضِها والكفرَ ببعضِها (أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) خبر المبتدأ، والإشارة إليه بالبعيد؛ لعلوّ رتبة ما اشتملت عليه أوصافهم من التلاوة الحقّة، وضمير بهِ راجعٌ إلى جنسِ الكتابِ (وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) مَن كفرَ به فحرّفه، أو آمن ببعضه وكفر ببعضٍ خسرَ، واستحقّ الخلودَ في النار، ودلّ خُسران مَن كفرَ به على فوزِ مَن آمنَ بكلّ ما أنزلَه الله، وتلاهُ حقّ تلاوتِهِ، ولم يحرِّفهُ، وهوَ مِن الإيجازِ البليغ، بالحذف مِن الأولِ لدلالةِ الثاني عليه.
[1]) بشيرا ونذيرا اسما فاعل بمعنى مبشرا ومنذرا، من بشّر وأنذر الرباعي، مما سُمع فيه فعيل بمعنى اسم الفاعل على غير قياس، كما تقدم في بديع بمعنى مبدع.
[2]) قراءة الجزم على النهي من عطفِ الإنشاء على الخبر، فيقدرُ معطوفٌ عليه محذوف، تقديره: فبشر وأنذرْ ولا تَسألْ.
[3]) البخاري:1147.
[4]) الأنعام: 161.
[5]) البخاري: 1، مسلم: 1907.
[6]) الزمر: 65.