طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير –  الحلقة (84)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

 الحلقة (84)

 

(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 158].

 

(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ).

(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ) الصّفَا والمروة علمانِ على جبلينِ؛ الأول نهاية امتدادِ جبلِ أبي قبيس، والثاني نهاية امتدادِ جبلِ قينقاع، وبينهما المسعَى، والصفَا جمع صفاة، حجارةٌ صلبة ملس، والمروة مفرد المرو: حجارةٌ رقيقة الحواشي، تتشظَّى وتقدحُ بها النارُ، والشعائر جمع شعيرةٍ، وهي العلامةُ، أي: هما علامتان لمواضع النسك والعبادة، والحجُّ لغةً القصدُ، وعرفًا: قصدُ البيت الحرام للنسك على وجه مخصوصٍ، والعمرة: الزيارة، والمراد بها زيارةُ الكعبةِ على وجهٍ مخصوصٍ، مشتملة على إحرام وسعي وطواف، فصار كلٌّ مِن الحج والعمرة علمًا بالغلبة على هذا المعنى العرفي (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ) لا حرجَ، وأصلُ الجُنَاح الإثمُ، من جَنَحَ إذا مالَ، واستعمالُ جنحَ يكون في الميل إلى الشرِّ، بخلاف حنَفَ، فإنّها أيضًا بمعنى الميل، لكنها تستعملُ في الميل إلى الاستقامةِ والخير، ومنه: (بُعثتُ بالحنيفيةِ السمحة)([1]) (أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) لا إثمَ عليه في الطوافِ بينَهما، فالآيةُ تدلُّ على جوازِ السعي بينهما لمن تحرّجَ وامتنع منه، لا على جوازِ تركِ السعي؛ لأنها لو كانتْ لجواز التركِ لكانت: فلا جناحَ عليه ألَّا يطوفَ بهما، كما يأتي عن عائشةَ رضي الله عنها.

 

روى البخاري في سبب نزول الآية: أنّ أنسَ بنَ مالك رضي الله عنه سُئل عن الصفا والمروة، فقال: كنا نرى أنهما مِن أمر الجاهلية، فلما كانَ الإسلامُ أمسكنا عنهما، فأنزل الله عز وجلّ: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ)([2]).

وكانت الأوسُ والخزرجُ في الجاهليةِ يهلونَ لمناة، التي بالمشلل [موضع قرب قُديد]، ويكرهونَ أن يُهلوا لإسافَ ونائلة، اللّذيِن بجبلَي الصفا والمروة، فلما جاءَ الإسلامُ تحرجُوا أن يطوفُوا بالمكان الذي كرهُوا الطوافَ به في الجاهليةِ، فنزلتِ الآية.

وليس هناك ما يمنعُ مِن أنّ الآية نزلتْ ردًّا على كلّ من ذكر.

وقد فهم عروة بن الزبير رضي الله عنهما من قوله تعالى: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) أنه ليس هناك من حرج على مَن تركَ السعي بين الصفَا والمروة، وذكر ذلك لعائشة رضي الله عنها، فقالت: “بِئْسَمَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِى، طَافَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَطَافَ الْمُسْلِمُونَ، وَإِنَّمَا كَانَ مَنْ أَهَلَّ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِى بِالْمُشَلَّلِ، لاَ يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَنْزَلَ اللهُ: (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا)، وَلَوْ كَانَتْ كَمَا تَقُولُ لَكَانَتْ: فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَطَّوَّفَ بِهِمَا”([3]).

واختلفَ أهلُ العلم في حكمِ السعي بين الصفَا والمروة في الحجّ والعمرةِ، فالجمهور على أنه ركنٌ، ومنهم مَن يرى أنه واجبٌ ينجبرُ بالدم، ومنهم مَن يرى أنه سنةٌ، وعند التحقيق فإنّ قوله تعالى: (مِنْ شَعَائِرِ الله) يدلُّ على استبعاد حكم الإباحة، وأنه مطلوبٌ؛ لأنه من الشعائر، وقوله: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) يدل على رفع الحرجِ، ورفع الحرج يؤكد  أنه مشروع،  والمشروعية تصدق بالركنيةِ وبالوجوب وبالسنية، ولتوضيح ذلك مثلا: لو أراد أحدٌ أن يصلي فريضة أو يصليَ سنة، في وقتٍ أو مكانٍ يظنّ منعَ الصلاة فيه، فقلت له: ليس عليك جناحٌ أن تصليَ، لأفدت أنّ له أنْ يصليَ، وما أفاد كلامك له مَا إذا كان حكمُ الصلاة التي يؤديها سنةً أو فرضًا.

وركنية السعيِ عند الجمهور أُخذتْ من أدلة أخرى؛ منها قوله صلى الله عليه وسلم: (إنّ اللهَ كتبَ عليكُم السّعيَ فاسعَوا)([4]).

(وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (خَيْرًا) منصوبٌ على نزعِ الخافض، وهو نكرةٌ في سياق الشرطِ، تعمُّ كلَّ تطوعٍ بخير، فالآية تنبيه على حكم كلّيٍّ عام في التطوع بالخير، ليسَ خاصًّا بالسعيِ، أي: مَن تطوع وأتى بعملٍ مِن أعمال الخير، فاللهُ مطلعٌ عليه، يشكرُه له، ويثيبُه عليه، سواء كان من أعمال الحجّ أو غيره، وقوله: (فإنّ اللهَ شاكرٌ عليمٌ) تعليمٌ للأمة لخلّتين: الوفاءُ والعرفانُ، فالله مع غناهُ المطلق عن خلقِهِ، يشكرُ لهم عملَ المعروف والبر، ويشعرهُم بعلمه به، لكن للمعروفِ بين الناس أمرٌ آخر، كثيرًا ما يُقابل إمّا بجحودٍ ونكران، وإمّا بتجاهلٍ وإعراضٍ، وهو ما نفاه الله سبحانه وتعالى – وللهِ المثل الأعلى – عن نفسِهِ بالشكرِ والعلمِ.

 

 

[1]) مسند أحمد:5/266.

[2]) البخاري: 1648.

[3]) الترمذي: 3228.

[4]) مسند الإمام أحمد: 26820.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق