المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (85)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (85)
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة:159-160].
هذه الآية نزلت في علماء اليهود، الذين كتمُوا ما جاءَ في التوراة، مِن صفةِ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ودلائل صدقهِ، وفي كتمانِهم لبعضِ الأحكامِ التي كلّفهم الله بها، مثل آيةِ الرجمِ ونحوها، وهذا لا يخرجُ اسم الموصول (الَّذِينَ) عن عمومِهِ، فهو للجنسِ، يستغرقُ كلّ مَن كتم الحقّ، أو كتم عِلمًا من دينِ الله يحتاجُ الناسُ إلى بيانِهِ، فالآيةُ من العام الواردِ على سببٍ، العبرةُ فيه بعمومِ اللفظِ لا بخصوصِ السببِ، فالسببُ لا يخصصُ العمومَ، بل يُبقيهِ على عمومهِ، ويكونُ دخولُ أفرادِ السببِ فيه بالأولويةِ، لأنّ شمول العام لأفراد سببه قطعي، ولغيره من أفرادِ العام ظنيّ، وعلماء هذه الإمة معنيونَ بما جاء في هذه الآية، مِن ذمّ الكتمانِ ولعنِ أهلهِ، فقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: “إنّ كل ما ذمَّ الله عليه أهلَ الكتابِ فالمسلمونَ محذَّرون من مِثله”، ويشهد لذلكَ استدلالُ أبي هريرة رضي الله عنه بها، عندما قالوا له: أكثرَ أبو هريرة – أي من الرواية – قال: لولا آيةٌ في كتاب الله ما حدثتكُم حديثًا، وقرأ هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى)([1]).
(يَكْتُمُونَ) الكِتمان والكتْم: إخفاء ما يُخْبَر به عادةً (مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى) ما أنزله الله في التوراة والقرآن وسائر الكتب، من الدلائل والحجج، على التوحيد والشرائع والأحكام، وبيان الحقّ، وما به الهداية وصلاح النفس وإقامة الدِّين، وذلك يعمّ ما كان منصوصًا من الأحكام وما كان مستنبَطًا (لِلنَّاسِ) اسم جنس يعمّ الناس كافّة، ويخصصه العرف بمَن جاءهم البيان عن طريق الرسل، و(الْكِتَاب) أيضًا اسم جنس، يعمّ جميع الكتب المنزلة (أُولَئِكَ) الإشارة إلى الذين يكتمون، وهو مبتدأ، والخبر (يَلْعَنُهُمُ اللهُ) أو الخبر جملة (أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ) ولم تقترن جملة (أولئك يلعنهم الله) بالفاء، حتى لا يتوهم أنّ الكتمانَ هو السبب الوحيد في لعنهم.
وجاء الفعل (يَلْعَنُهُمُ) بصيغة المضارع؛ ليدل على تجدد اللعن واستمراره، واللعنُ: الإبعاد والطرد، يبعدهم ويطردهم من رحمته، وأثر لعن الله سبحانه وتعالى إياهم الحرمان من الجنة (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) الملائكة والمؤمنون، وأثرُ لعن الملائكة والمؤمنين الدعاء عليهم بالطرد، وبغضهم، والتخلي عنهم، وكرر فعل اللعن (وَيَلْعَنُهُمُ) مع جواز حذفه، والاكتفاء بالعطف على الأول، كأن يقال: يلعنهم الله واللاعنون؛ لاختلاف معنى اللعن في الجملتين، فاللعن في جانب الله الإبعاد من الرحمة، وفي جانب المؤمنين والملائكة الدعاء، والعالِمُ إن احتاجت الأمة إلى علمه، بأن انفرد في مكانٍ لا يجدُ الناسُ غيرَه، أو كان هو أتقنَ للعلم، وجبَ عليه البيان عينًا، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم لأبي سعيد رضي الله عنه: (إنّ الناسَ لكم تَبَع، وإنّ رجالًا يأتونكم مِن أقطار الأرضين يتفقهونَ في الدينِ، فإذا أتوكم فاستوصُوا بهم خيرًا)([2])، وإن لم ينفرد وشاركه غيره، كان الواجب عليهم كفائيًّا، ولا يحل له أن يذكر للظالم تأويلًا يشرع له به تماديهِ على الظلم، كما يفعل علماءُ السوء، سأَل الحجاجُ أنسَ بنَ مالك عن أشد عقوبة عاقبها النبيُّ صلى الله عليه وسلم أحدًا من المسلمين، فذكر له حديث العرنيين، فلما بلغ ذلك الحسنَ قال: وددتُ أنه لم يحدثهُ؛ لأنهم يتلقفونَ مِن ظاهره ما يوافقُ هواهُم، فيجعلونهُ معذرةً لهم فيما يعاملون به مَن يخالفُهم، أي يجعلون ما أقامهُ النبي صلى الله عليه وسلم مِن حدِّ الحرابة على العرنيين، مبررًا لتعذيبِ الناس بالظلم في السجونِ ونحوها، وفي مثل هذا يقول ابن مسعود رضي الله عنه: “مَا أنت بمحدثٍ قومًا حديثًا لا تبلغُهُ عقولهم، إلا كانَ لبعضِهم فتنةً”([3]).
وكتمان ما به هداية الناس، أو ما كتمانه يوقع بهم ضررًا – يقينًا أو ظنًّا – يحرمُ في حالات، منها:
- عند قصد الكتمان؛ لأن قصد الكتمان في ذاته معصية، ومَن لم يقصد الكتمان لم يلزمه التبليغ على التعيين، إلا إذا انفردَ ولم يوجد غيره.
- عند السؤال، فمن سُئل فقد وجب عليه التبليغُ؛ لتعينه بالطلبِ.
- مَن عُين بشخصه ليبلغ، مثل الرسل الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعثهم ليبلغوا عنه.
- مَن عينت له طائفة من الناس ليعلمَهم، فيجب عليه أن يعلمَهم ما يغلبُ على ظنه أنه ينفعُهم، أو ما طُلب منه تعليمُهُ.
(إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (إِلَّا الَّذِينَ) ما بعد إلَّا استثناء من كلام تام قبله، محله النصب، و(تَابُوا) ندمُوا ورجعوا من الكفر إلى الإيمان، ومن المعاصي إلى الطاعة، ومن الكتمان إلى البيان (وَأَصْلَحُوا) تداركوا ما أفسدوا (وَبَيَّنُوا) وبلَّغوا للناس ما كتموه مِن العلم، فلا تلحقُهم اللعنة (فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) الفاء للتعقيب، دالة على أن إصلاحهم وبيانهم يعقبه رضوان الله، وزيادة خيره وفضله العظيم بقَبول توبتهم.
والتوبة وإن كان صدقُها من عدمِه مداره على ما في القلب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (التَّقْوَى هَا هُنَا)([4])، وأشار إلى قلبه، فإنّ التوبة الصادقة النصوح تقتضي العمل المصاحب، كما جاء في الآية، ولا يكفي فيها قول القائل: تُبْتُ، حتى يظهرَ منه خلافُ ما كان عليه، بتركِ المنكرات والعملِ بالطاعات، وتغير حالهِ إلى إصلاح، ولذا قال: (وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا).
[1] ) البخاري:2223، ومسلم:562
[2]) الترمذي: 2650.
[3]) المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي: 490.
[4]) مسند الإمام أحمد: 7713.