المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (87)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (87)
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[البقرة:164].
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) الخلق هنا بمعناه المصدري، وهو الصنعُ والإبداعُ، وجُمعتِ السماواتُ لأنها أجرام متباعدةٌ منفصلة، والسموات السبع الواردة في القرآن والسنة، قد تكونُ الكواكب السيارة السبع، وقد تكون ما هو أضخم من ذلك كالمجرات العظيمة، والفضاءُ الكونيّ الواسعُ بناءٌ هائل، لم يُكتشفْ منه إلا أقلّ القليل، قال تعالى: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)([1])، وأفردت الأرض مع أنها سبع؛ لأنها جرم واحد، وجاءت الأرض في القرآن مفردة، ولم يأتِ منها الجمع أرضون، قال تعالى: (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)([2])، كما جاء لفظ الألباب في القرآن جمعًا، ولم يأتِ مفرده لُب؛ لثقله.
(وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) اختلاف الليل والنهار له وجوه، منها: اختلافهما بالطول والقصر، والنور والظلمة، وتعاقبهما الواحد بعد الآخر، كما قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)([3])، والليل: ظلمة ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر، والنهار: ضوء ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، هذا هو التعريف الشرعي لكل من الليل والنهار؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضي الله عنه – حين وضع تحت وسادهِ عقالًا أبيضَ وعقالًا أسود، يعرف بهما الليل من النهار – قال له صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ)([4])، و(الْفُلْكِ)([5]) لفظ الفلك مذكر، قال تعالى: (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)([6])، وجاء تأنيثه على معنى السفينة، قال تعالى: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ)([7])، بعد أن قال: (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ)([8]) (الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) صفة للفلك (بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ)[9] راجعٌ لكل ما تقدم، من خلق السماوات والأرض وما بعده.
ففي خلق السموات على هذا النظام البديع المحكم آيات، منها على سبيل المثال ما وضعه فيها من أسرار قانون الجاذبية، الذي به تستمر الحياة، وإلا لانقضت الكواكبُ وتدمرت: (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)([10])، وفي خلق الأرض دلائل وآيات أخرى عظيمة، منها: تمهيدها، وتزويدها بكل وسائل وعوامل استمرار الحياة، إلى بلوغ أجلها المحدود: (وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ)([11])، وفي تسخير الفلك آيات أخرى عظيمة، فالبحر مخلوق آخر عجيب، ماء ملح محصّن من التعفن، متدافع متموج على الدوام بلا توقف، يغمر ثلاثة أرباع الأرض، ناهيك عما به من الثروات، وما يحمله على ظهره من الفلك، المشحون بالأحمال والأثقال والتجارات، وما يحدثه من تبخير المياه وتكوين السحب وإنزال الامطار.
(وما أنزل الله مِنَ السَّمَاءِ مِن ماء) (مِنَ السَّمَاءِ) مِن ابتدائية، ومِن في قوله: (مِنْ مَاءٍ) بيانية، أي: الماء الذي أنزله الله، ابتدأ نزوله من السماء، حالة كون ما أنزله الله هو مِن ماء المطر (فَأَحْيَا به الأرض بعد موتها) حياة الأرض بالنبات، وأصل الحياة الحركة؛ كما قال تعالى: (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)([12])، وعطف (فأحيا) بالفاء المفيدة للتعقيب، يدل على حصول الحياة في الأرض عقب نزول الماء، بلا تراخٍ، وموت الأرض: ما يصيبها من الجدب والقحط لانعدام الماء، فإذا أنزل الله عليها الماء أحياها بالنبات، لتخرج النبات والغداء للحيوان والإنسان، قال تعالى: (مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ)([13]) (وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) البث نشر ما كان مخفيا، تقول: بثَّ شكواه وبثّ سره، إذا نشره بعد أن كان خافيا، وقيل: البث النشر مطلقًا لما كان مخفيًّا وغير مخفيّ، وضمير (فيها) يعود إلى الأرض (مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) من بيانية في موضع حال، والدابة كل ما يدِبّ على الأرض، وتنكيرها للتنويع، ولفظ (كلّ) دل على أن المراد جميع الأنواع، لا خصوص المعنى العرفي الخاصّ بذوات الأربع.
(وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) التصريف مبالغة من الصرف، وتصريف الرياح تقليب الله تعالى هبوبها، وتغييرها من اتجاه إلى اتجاه، ومن شديدة إلى خفيفة، ومن باردة إلى معتدلة إلى حارة، إلى غير ذلك من أنواع التصريف والتغيير، وهذا التحريكُ لكثرته وخفة حركته، ناسبه لفظ التصريف على وزن التفعيل؛ لما فيه من المبالغة، التي تناسب الكثرة، ولما في مادة التصريف من الخفة والليونة، التي تناسب الرِّيَاحِ، وكثر استعمال الرياح جمعًا في الخير، والريح مفردًا في الشر، من ذلك قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ)([14])، وقوله تعالى: (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ)([15])، وفي حديث: (اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا وَلا تَجْعَلْهَا رِيحًا)([16]) ما يُستأنسُ به لهذا التفريق، وإن كان متعقّبًا بورودِ ما يخالفه (وَالسَّحَاب) معطوف على الرياح، على معنى: وفي تصريف الرياح والسحاب، والسحاب: الماء المتجمع في الأفق من تصاعد الأبخرة مِن على سطح الأرض، وبخاصة مِن على سطح البحر، وسمي سحابًا لجرّ الرياح له وانسحابه في الجوّ، ولسحب بعضِه بعضًا، ولتسخير السحاب ارتباطٌ وثيقٌ بما قبله، من أسرار خلق البحر ونفعه لحياة الناس، لأن البحر هو الذي تصعدُ منه الأبخرة التي تكوّن السحب، فإذا ما تثاقلت تساقطت، فينزل الله المطر، ولولا تصريف اللهِ الرياحَ وسوق السحاب، لتساقط المطر كله على البحار، لكن الله برحمته يسوقُه حيث ينفع الناس، فتخضر الأرض، ويسيل أنهارًا ووديانًا، فينتفع البحر أيضًا، ويُعوض ما فقده، والله سبحانه وتعالى هو الذي يهيئ هذه الأسباب وينشئها، ولذا وصف السحاب في الآيةِ بـ(المسَخَّرِ) أي: المساق المتحكم فيه، وقال تعالى: (سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ)([17]) (بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) في كون السحاب بَين السَّمَاءِ وَالأَرضِ منّة أخرى عظيمة؛ لأنه لو تكدس على سطح الأرض لاختنقَ الناس (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في كل ما تقدم مِن الخلق والإبداع والإتقان للموجودات، دلائلُ باهرةٌ واضحةٌ على وحدةِ ووجودِ الصانع، لكلّ مَن كان مِن قومٍ يعقلونَ.
[1]) الذاريات: 47.
[2]) الطلاق: 12.
[3]) الفرقان: 62، الليل جمع ليلة، كتمر وتمرة، ويجمع على ليالي على غير قياس، بالياء في آخره وبدونها، والنهار يجمع على نُهُر وأَنهِرة، وقيل النهار اسمٌ بمعنى المصدر، لا يجمع كالضياء، يقع على القليل والكثير.
[4]) مسلم: 1824.
[5]) فلْك كقُفل في اللغة الفصحى، وهي لغة القرآن، ويجوز فيه الضم على القاعدة في الجمع، كحُمُر جمع حمار، والصحيح في الفلك أن جمع التكسير والواحد فيه سواء، وقيل الواحد بفتح وسكون فَلْك، والجمع بضمتين فُلُك، مثل أَسد وأُسُد، ثم سكنت فيه العين تخفيفًا.
[6]) الشعراء: 119.
[7]) هود: 41.
[8]) هود: 38.
[9]) ما مصدرية، أي: لنفع الناس، أو موصولة، أي: الذي ينفعهم.
[10]) يس: 40.
[11]) الذاريات: 84.
[12]) الحج: 5.
[13]) النازعات: 33، عبس: 32.
[14]) الأعراف: 57.
[15]) الأحقاف: 24.
[16]) المعجم الكبير للطبري: 11533.
[17]) الأعراف: 57.